46/05/13
الأصول العملية، البراءة.
الموضوع: الأصول العملية، البراءة.
• من الأدلة على البراءة حكم العقل "بقبح العقاب بلا بيان".
• القاعدة تامة بحد ذاتها.
• توهم التعارض بين هذه القاعدة العقلية وقاعدة "دفع الضرر المحتمل واجب".
• علاج التوهم باختلاف المنشأين: فمنشأ "قبح العقاب" هو عدم الوصول، ومنشأ "دفع الضرر" هو فعلية الحكم وتنجزه، وليس نفس أنشائه.
ومن الأدلة على البراءة حكم العقل "بقبح العقاب بلا بيان" أي حكم العقل العملي، وهو حكم العقلاء بما هم عقلاء، حكم عقلائي، وما حكم به العقل حكم به الشرع.
والبحث في اربعة نقاط:
النقطة الأولى: في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان بنفسها.
النقطة الثانية: في تمامية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
النقطة الثالثة: في العلاقة بين القاعدتين.
النقطة الرابعة: في العلاقة بين قاعدة "قبح العقاب بلا بيان"، وأدلة "وجوب الاحتياط" على تقدير تماميتها.
اما النقطة الأولى: فهي ثابته تامة بالنسبة لله تعالى، فهو ارحم الراحمين، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [1] ، هذا بالنسبة لشديد العدل، ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [2] ومن الواضح أنه من أشد الظلم العقاب على غير الواصل، بلا شك ان هذا خلاف الرحمة.
نعم، ذكرنا ان بعض الاساطين ذكر مسلك حق الطاعة وشمول وجوب الاحتياط عقلا للتكاليف المحتملة –المشكوك-، فالأمر ثلاثة: المعلوم وصوله، والمشكوك، والذي نعلم عدمه.
وقلنا ما ملخصه بأنه لا شك في كون حق الطاعة بالنسبة لله عز وجل هو اعظم حقوق الطاعات، والمفروض انه كلما كبرت أهمية المولى كبر حق الطاعة، ولذا تشمل المشكوكات والموهومات، لكن بالنسبة لله تعالى فإن هذا غير تام، فهو ارحم الراحمين، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾. وفي علم الاصول نتكلم في حق الطاعة بالنسبة لله عز وجل.
اما النقطة الثانية: فهي أيضا ثابتة ، فإن العقلاء إذا احتملوا ضررا دنيويا أو اخرويا، نفسيا أو غيريا، مفسدة أو مضرّة، تجنبوه لانه مسألة وجدانية لا تحتاج إلى دليل وهذا أمر عقلائي لا شك فيه.
النقطة الثالثة: الكلام في العلاقة بين القاعدتين بعد ثبوتهما: للوهلة الأولى قد يتوهم التناقض بينهما، فانه كما يمكن ان يقال: عند المشكوك وعدم وصول الحكم إلى المكلّف: تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان، مؤمنة من العقاب، أي مؤمنة من الضرر، فترفع قاعدة: دفع الضرر المحتمل واجب، موضوعا، لان موضوع القاعدة هو احتمال الضرر، ومع رفع الاحتمال لا يوجد ضرر لدفعه، فتقدّم قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
كذلك يمكن ان يقال بالعكس: وجوب دفع الضرر المحتمل بيان للوجوب، فترفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعا، لان موضوعها هو عدم البيان، ووجوب دفع الضرر بيان عقلا، فترتفع القاعدة، وتقدّم قاعدة: دفع الضرر المحتمل واجب.
فكيف نعمل وايهما نقدّم؟ مع العلم أن الأحكام العقلية لا يمكن تناقضها لأن حكم العقل قطعي، ولا يجتمع قطعان على موضوع واحد، فلا يمكن أن يكون المشكوك موضوعا للبراءة وموضوعا للاحتياط في آن واحد. إذن المعضلة واضحة.
والجواب: حل المعضلة يكمن في نقطة دقيقة وهي: التحقيق في منشأ الحكمين، والامثلة كثيرة مثلا: في التعدي على الطرقات العامّة، في تجاوز الإشارات، ورمي النفايات في الشوارع، وغيرها من المخالفات للقوانين العامة المعاصرة التي هي من صالح المجتمع.
فمع الجهل وعدم وصول الحكم، لا يوجد احتمال للعقوبة ابدا، إذ العقوبة ليست ناشئة من نفس انشاء الحكم واقعا، بل هي ناشئة من تنجيز الحكم الواقعي وتحمّل مسؤوليته، لا في ذاته وانشائه. ومع عدم الوصول فليس هناك ضرر أخروي محتمل.
وأما المفسدة الدنيوية وإن كانت محتملة بناء على ما عليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، فلم يثبت دليل على وجوب دفعها دائما، ألا ترى أن الضرر الخفيف يرتكبه العقلاء، والضرر المتوسط يرتكبونه مع احتماله، نعم الضرر العظيم كالقتل يجب عقلائيا تجنبه.
أذن: هناك منشآن للقاعدتين فلا تعارض.
وبهذا يتضح أن قاعدة دفع الضرر المحتمل لا تشمل المقام، وهو الحكم غير الواصل للمكلف، إذ لم يثبت موضوعها وهو احتمال الضرر مع عدم المؤمّن. فتبقى قاعدة " قبح العقاب بلا بيان" بلا معارض.