47/06/24
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في التنبيه الرابع الذي عُقد لما أثاره المحقق العراقي قده من أنَّ قاعدة (لا ضَرر) ليست قاعدة عامة يمكن الاستفادة منها في استنباط الأحكام، وإنما هي إشارة الى قواعد ثابتة في مرتبة سابقة عليها والحكم في تطبيقاتها ثابت بتلك القواعد لا بها.
وذكر أنَّ الدليل على ذلك هو أنَّ الفقهاء يلتزمون بحكم إما هو أوسع مما تقتضيه القاعدة أو هو أضيق مما تقتضيه، مما يظهر منه أنَّ المدرك ليس هو قاعدة (لا ضَرر).
وأما التطبيقات فذكر منها الوضوء الضرري، وحيث أنَّ القاعدة تنفي الحكم الضرري فغاية ما تقتضيه هو نفي وجوب الوضوء، لكنهم إلتزموا بالبطلان والقاعدة لا تدل عليه، نعم تدل على البطلان قاعدة أخرى وهي اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي، والنهي في العبادة يقتضي البطلان، فتكون هي المدرك للحكم بالبطلان.
ثم ذكر قرائن لإثبات هذا المدعى:
القرينة الأولى: ما تقدم من أنهم لم يقتصروا على نفي الوجوب وإنما أثبتوا البطلان، ولا يمكن استفادته من قاعدة (لا ضَرر) وإنما يستفاد من أنَّ النهي عن العبادة يقتضي البطلان.
نعم لو كانت القاعدة تنفي الملاك لاقتضت البطلان، لكنها ليست كذلك لأنَّ الضرر لا ينشأ من الملاك وإنما من الإلزام بالفعل، فما تنفيه هو الوجوب، فالالتزام بالبطلان لابد أن يكون ناشئاً من قاعدة أخرى.
ولاحظ السيد الشهيد قده على هذه القرينة:
أولاً: لعل الفقهاء استندوا في البطلان الى النهي، واستندوا في نفي الوجوب الى قاعدة (لا ضَرر) ولا منافاة بينهما.
ثانياً: لعلهم التزموا بالبطلان باعتبار عدم إحراز الملاك بعد سقوط الوجوب - وهناك كلام وخلاف في بقاء الملاك أو سقوطه بعد سقوط الحكم - فلازم سقوط الوجوب بمقتضى قاعدة (لا ضَرر) هو سقوط الملاك، ومعه يحكم بالبطلان.
ثالثاً: إنَّ فرض استناد الاصحاب الى حرمة الإضرار بالنفس لإثبات البطلان إنما يتم إذا كان الضرر بليغاً حتى يكون حراماً، وإلا فلا حرمة للإضرار بالنفس حتى يُستند إليها لإثبات البطلان، وهذا يُعيِّن عدم استنادهم الى الحرمة والنهي في هذه الحالة، وحينئذٍ تجري القاعدة لنفي الوجوب، ويمكن الالتزام بالصحة إما استناداً الى الاستحباب النفسي الثابت للوضوء وإما استناداً الى الملاك، باعتبار أنَّ القاعدة لا ترفعه لأنه ليس ضررياً وإنما ترفع الوجوب، مضافاً الى أنَّ القاعدة إمتنانية وهو يتحقق برفع الوجوب.
القرينة الثانية: أنَّ الفقهاء مع اعترافهم ببطلان الوضوء الضرري قالوا بالصحة في صورة ما إذا كان المكلف جاهلاً بالضرر، وإنما التزموا بالبطلان في صورة العلم بالضرر، وهذا يتلاءم مع كون المدرك للبطلان في صورة العلم بالضرر هو مسألة اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي، لما ذُكر في محله من أنَّ ما يثبت بذلك هو البطلان في صورة العلم فقط لا في صورة الجهل، كما هو الحال في مسألة الصلاة في المغصوب، فإنه في صورة الجهل بالغصبية يحكم بالصحة لعدم فعلية النهي مع الجهل، فلا يكون موجباً للبطلان، لكنه لا يتلاءم مع قاعدة (لا ضرر) لأنَّ هذه القاعدة لا يختص جريانها بصورة العلم بالضرر، فلو صح الاستدلال بها على البطلان لكان هذا ثابتاً حتى في صورة الجهل.
ولاحظ عليها السيد الشهيد قده أيضاً:
أولاً: بما تقدم من أنَّ غاية ما يثبت بما ذُكر هو أنَّ حكمهم بالبطلان في صورة العلم يستند الى مسألة الاجتماع وحرمة الاضرار بالنفس، وهذا ليس فيه دلالة على عدم استنادهم الى القاعدة لنفي الوجوب.
وثانياً: من قال أنَّ الأصحاب يُسلِّمون شمول القاعدة لصورتي العلم والجهل! فلعلهم يرون اختصاصها بصورة العلم ولذا حكموا بالبطلان في هذه الصورة وبالصحة في صورة الجهل، والوجه في ذلك هو أن يقال: إنَّ القاعدة إمتنانية ومقتضى ذلك أن يكون مفادها تسهيلاً وامتناناً على المكلفين، وإنما يكون ذلك إذا كان نفي الحكم مساوقاً لارتفاع الضرر عن المكلف خارجاً حتى يكون منة عليه، ومن المعلوم أنَّ هذا يختص بصورة العلم بالضرر، لأنَّ نفي الوجوب حينئذٍ يساوق ترك المكلف لما فيه الضرر فيكون إمتناناً، وأما الجاهل بالضرر فرفع الحكم بالنسبة إليه ليس قابلاً لرفع الضرر أصلاً لأنه سوف يُقْدِم على الفعل سواءً رُفع عنه الوجوب أو لا، لكونه جاهلاً بضرريته، وعليه فلا يكون في رفع الوجوب امتنان على المكلف.