47/06/22
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
التنبيه الثالث: في توجيه تطبيق القاعدة على مسألة منع فضل الماء، حيث ورد في رواية الكافي بسنده عن عقبة بن خالد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ (ص) بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَشَارِبِ النَّخْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ [نَقْعُ البِئرِ][1] وَقَضَى (ص) بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ، وَقَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.)[2]
وفُسِّر (نقع البئر) بفضل ماء البئر، وأما قوله: (أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ) فأحسن ما قيل في تفسيره هو ما أشرنا إليه من أنَّ الرجل يكون له بئر حولها كَلأ مباح ويريد أن يختص به ولا يزاحمه فيه أحد، ولا يستطيع أن يمنع الرعاة، فيتوسل الى ذلك بمنعهم فضل مائه، فيضطر الراعي الى الانتقال الى مكان آخر.
ووقع الكلام في الارتباط بين الجملتين كما هو الحال في التنبيهين السابقين، وحينئذٍ يأتي ما تقدم في التنبيه الثاني من استظهار الارتباط بين الجملتين بناءً على أنَّ الجمع بينهما إما هو صادر من النبي (ص) أو من الامام (ع)، مع استبعاد أن يكون صادراً من الراوي، وكذا يأتي ما ذكرناه في الاتجاه الأول من التنبيه الثاني - الذي أنكر الارتباط - من جواب ما استُدل به على عدم الارتباط، ومن هنا يظهر أنَّ الارتباط ثابت بين هاتين الجملتين.
وبعد الفراغ عن الارتباط بين الجملتين يرد الاشكال بأنه كيف طُبقت القاعدة على مسألة منع فضل الماء؟ وحاصل الاشكال هو: أنَّ منع الانسان فضل مائه عن الغير لا يُعد ضرراً وإضراراً بالغير، وإنما هو مجرد عدم إيصال النفع إليه، فلا ربط له بقاعدة نفي الضرر؟
واُشكل أيضاً بأنَّ مفاد الحديث وهو حرمة منع فضل الماء، وهذا النهي ثابت سواءً قلنا بأنَّ مفاد (لا ضَرر) هو حرمة الضرر والضرار كما عن شيخ الشريعة، أو قلنا مفاده هو نفي الأحكام الضررية ما هو المشهور، فعلى كلا التقديرين يدل الحديث على التحريم، أما على الأول فواضح، وأما على الثاني فلأنَّ الضرر إنما يترتب على الجواز بالمعنى الأعم، ومع نفيه يثبت التحريم، ولكن لا يقول به أحد، وإنما يقال بكراهته أو باستحباب بذل فضل الماء.
وأجيب عنه بوجوه:
الأول: أن يقال أنَّ منع فضل الماء يكون سبباً لمنع الانتفاع بالكلأ المملوك للجميع باعتباره من المباحات العامة، فيكون سبباً للضرر، فيكون منع فضل الماء ضررياً، فيصح تطبيق القاعدة عليه ويرتفع المنع، بمعنى أنه ليس لصاحب البئر منع فضل مائه، ويصح تعليل النهي عن منع فضل الماء بــ (لا ضَرر).
الثاني: أن يقال أنَّ الانتفاع بالماء يُعتبر من الحقوق الثابتة لكل أحد بحسب مرتكزات العرف والعقلاء، باعتباره من الثروات الطبيعية التي خُلقت لجميع الناس، فيكون منع الغير من الانتفاع بهذا إضراراً به، فيكون مورداً للقاعدة.
الثالث: إن يقال أنَّ الاشكال إنما نشأ من تخيُّل أنَّ لازم الحكم بملكية شيء هو جواز منع الآخرين من التصرف فيه، وبعبارة أخرى استحقاق الغير للتصرف في الشيء المملوك ينافي ملكية المالك له، فمن لوازم الملكية جواز منع الغير من التصرف في الشيء المملوك بلا إذن المالك، وبناءً عليه لا يكون حق التصرف ثابتاً للغير، فيكون المنع من الماء في محل الكلام مجرد عدم إيصال نفع إليه وليس ضرراً عليه، ولكن لا ملازمة بين الملكية وبين جواز منع الغير من التصرف بالشيء المملوك، لأنَّ ثبوت هذا الحق لا ينافي أصل الملكية، وإنما ينافي الملكية المطلقة، وهو غير ثابت في أمثال المقام، بل الثابت منها بحسب بناء العقلاء سنخ ملكية محدودة تجامع ثبوت حق لشرب الماء للآخرين، فيكون المنع منه حينئذٍ أضراراً.
ولو فرضنا عدم ثبوت هذا الحق فلازمه أن يكون النهي تنزيهياً، إلا أنه لا مانع من تعليله بــ (لا ضَرر ولا ضِرار) لكن على مستوى الحكم التنزيهي، بمعنى أنه ينبغي التحرز عن الإضرار بالغير بمنع فضل الماء عنه وعن انتفاعه به مع حاجتهم إليه، فيكون لهذا الحكم مستويان أحدهما أخلاقي يتمثل في حديث منع فضل الماء، الآخر فقهي يتمثل في موارده الأخرى.