« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

47/06/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

تبين مما تقدم أنَّ كل الوجوه المذكورة فيها مخالفة لظهور ما، كما أنَّ الأخذ بها جميعاً غير ممكن، وحينئذٍ يقع الكلام في تحديد الظهور المرشح للسقوط ثم الأخذ بباقي الظهورات.

من هنا قد يقال بأن أقرب هذه الوجوه هو الثالث - الذي اختاره الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني - وهو أنَّ المراد بالحديث هو نفي الحكم الضرري، وذلك بتقريب أنَّ نفي الضرر في الحديث هو من باب الكنايات، فلا يكون المراد الاستعمالي في هذه الجملة مراداً جداً وإنما المراد الجدي هو بيان اللازم، وهو في الحديث نفي مقتضي الضرر وسببه، أي نفي الحكم المسبِّب للضرر، ومن المعلوم أنَّ الاستعمالات الكنائية لا تتوقف على وجود ملازمة حقيقية بين المعنى الاستعمالي وبين المعنى الكنائي، بل تكفي الملازمة العادية، نعم اقترنا في عرف معين أو زمان معين فاستعمل أحدهما كناية عن الآخر بادعاء أنَّ لازم الكرم كثرة الرماد، فصح الإخبار عن الكرم بكثرة الرماد، وصح الإخبار عن نفي الكرم بنفي كثرة الرماد، والمقام من هذا القبيل فإنه لا ملازمة حقيقية بين الحكم وبين الضرر، لوضوح أنَّ الحكم قد يتحقق من دون ضرر، وقد يتحقق الضرر من دون افتراض حكم يكون سبباً له، لكن لما كان الحكم الشرعي يسبب الضرر أحياناً في بعض الموارد صح جعل نفي الضرر كناية عن نفي سببه ومقتضيه، نعم هو بحاجة الى قرينة لما تقدم من أنَّ الظهور الأولي للكلام يقتضي تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، والكناية تُفكك بينهما، والقرينة موجودة وهي ما تقدم من وجود الأضرار التكوينية في الخارج كثيراً، مع ظهور الكلام الصادر من النبي (ص) في أنه صدر منه بما هو مشرع، فلا يكون ناظراً إلا عالم التشريع، أي نفي الحكم الذي يكون سبباً في الضرر.

أقول: يمكن التأمل هذا الكلام وذلك لأنَّ هذه القرينة لا تُعيِّن هذا الوجه لأنها تتلاءم مع الوجه الرابع، إن لم نقل بأنها تساعد على اثباته، لأنها تقتضي أنَّ المتكلم ليس ناظراً الى الاضرار التكوينية في الخارج حتى يكون نافياً لها، فحينئذ لابد أن يكون ناظراً إلى الأضرار التكوينية التي لها ارتباط بالشريعة، أي الأضرار الناشئة من الحكم الضرري، وبذلك نحافظ على ظهور النفي في كونه نفياً للضرر التكويني، ولا يلزم منه الكذب لأنَّ كل ضرر متحقق في الخارج فهو ليس ناشئاً من الحكم الشرعي، لأن المفروض في هذا الوجه هو نفي الحكم الشرعي المسبِّب للضرر، فلو أقدم المكلف على الوضوء الضرري فلا يكون هذا ناشئاً من الحكم الشرعي، لأننا فرضنا انتفاء الحكم الشرعي الذي يوجب الضرر التكويني، بخلاف الاحتمال الثالث حيث افتُرض فيه عدم إرادة نفي الضرر التكويني، وإنما المراد الجدي هو نفي مقتضيه وسببه هو الحكم الشرعي، وهذا وإن كان صحيحاً إلا أنه يحتاج الى قرينة، وما ذُكر من القرينة ليس قرينةً على ما ذكروه لما عرفتَ من أنَّ غاية ما يثبت بهذه القرينة هو أنَّ المتكلم ليس ناظراً الى الاضرار التكوينية غير المرتبطة بالشريعة، وهذا لا يعني أنه ناظر الى نفي الحكم الضرري، بل عرفتَ أن ذلك يستلزم إلغاء ظهور النفي في كونه نفياً للضرر التكويني بلا موجب وبلا قرينة، نعم هذه القرينة مع هذا الظهور ينتج أنه ناظر الى الاضرار التكوينية المرتبطة بالشريعة، فينفي الاضرار التكوينية الناشئة من الشريعة، وهذا هو الوجه الرابع المتقدم.

نعم، اذا قبلنا النكتة التي استُند اليها لإثبات الوجه الثاني - وهي أنَّ الضرر اسم مصدر يراد به المنقصة النازلة بالمتضرر من دون أن تشتمل على نسبة صدورية، وهذا المعنى بطبعه أمر مرغوب عنه لا يتحمله أحد عادة إلا بتسبيب وتحميل من قبل الشارع، فيكون نفي هذا الضرر ظاهراً في نفي التسبيب الشرعي، أي نفي الحكم الشرعي المسبِّب للضرر -فقد يقال إنَّ هذا قرينة على ارادة نفي الحكم الضرري في الحديث، وليس قرينة على نفي الضرر التكويني الناشئ من الشريعة.

ولكن يمكن أن يلاحظ عليه: بأن كون هذا الضرر أمراً مرغوباً عنه لا ينافي ما اختاره السيد الشهيد، أي أنه ليس قرينة على رفع اليد عن ظهور النفي في كونه نفياً للضرر التكويني الخارجي، إذ لا مانع من الجمع بين هذا الظهور وبين كون الضرر أمراً مرغوباً عنه، فلا بد من المحافظة على هذا الظهور، وحينئذ تكون القرينة السابقة قرينةً على عدم نظر المتكلم الى الأضرار التكوينية التي لا ربط لها بالشريعة، وهذا مع الظهور السابق ينتج نفي الاضرار التكوينية الناشئة من الشريعة، وهذا هو الوجه الرابع.

وللكلام تتمة..

 

logo