47/06/07
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في الوجه الرابع، وحاصله:
أنَّ مفاد القاعدة هو النهي، لكنه ليس نهياً تحريمياً وإنما هو نهي سلطاني صادر من الرسول (ص) بما هو حاكم لا بما هو مبلغ للأحكام الشرعية الالهية.
وتقدم أنه استدل على ذلك بأمور:
الأول: أنَّ القاعدة وردت في روايات العامة بعنوان (قضى) رسول الله (ص) بأنه لا ضرر ولا ضرار، والقضاء ظاهر في أنَّ المقضي به صادر منه بما هو قاضٍ أو بما هو حاكم، ولا يحتمل أن يكون صادراً منه بما هو مبلغ للأحكام الشرعية، ويستبعد صدوره منه بما هو قاضٍ لأنَّ الحكم الصادر منه حكم كلي وليس حكماً شخصياً وهذا يناسب أن يصدر منه بما هو حاكم.
الثاني: أنَّ الحديث ورد في رواياتنا في ذيل قضية سمرة بن جندب، وهذا لا ينسجم مع كون الحكم المذكور حكماً إلهياً أو قضائياً، فيتعين أن يكون حكماً سلطانياً، أما الأول فلعدم الشبهة لا الحكمية ولا الموضوعية حتى يكون ذلك بياناً لحكمها الشرعي الالهي، وأما الثاني فلعدم وجود نزاع وخصومة بين الطرفين، وإنما الموجود هو شكوى الأنصاري الى الرسول (ص) ما وقع عليه من الظلم من قبل سمرة من جهة دخوله بلا استئذان، فاستجاب له رسول الله (ص) وأمرَ سمرة بالاستئذان أولاً، فلما أبى وظهر منه العناد أمرَ الأنصاري بقلع العذق ورميه، وهذه الأمور تصدر منه (ص) بما هو حاكم ومسؤول عن تطبيق العدل بين رعيته.
الثالث: أنَّ الحديث وقع تعليلاً للأمر بقلع الشجرة في قضية سمرة، مع أنه لو أُريد منه رفع الحكم الضرري فقط، أو أُريد النهي عن الضرر وتحريمه، فلا معنى لتعليل الأمر بقلع الشجرة بفقرة (لا ضرر ولا ضرار)، فيتعين حمله على الأمر الصادر منه بما هو سلطان وحاكم.
وهناك ملاحظات على هذا الوجه منها: أنَّ (لا ضرر ولا ضرار) سواء كان مفادها هو رفع الحكم الشرعي الموجب للضرر أو تحريم الضرر، أو كان حكماً سلطانياً، فهو لا يبرر الأمر بقلع الشجرة والاضرار بالغير.
وهناك ملاحظات أخرى تأتي لاحقاً.
هذه هي الوجوه التي تذكر في المقام، وتبين مما تقدم أنَّ جميع هذه الوجوه تخالف أحد الظهورات الموجودة في هذه الجملة، والمهم هو تشخيص الظهور المرشح للسقوط من بين هذه الظهورات، ولا نقول ذلك إلا بعد فرض تعذر الأخذ بجميع الظهورات.
والذي يُفهم من كلام المحقق النائيني أنَّ الوجه الذي اختاره - وهو الثالث - ليس فيه مخالفة لأي ظهور، فيتقدم على باقي الوجه التي فيها مخالفة للظهور، وذلك باعتبار وجود علاقة بين الحكم وبين الضرر وهي علاقة السببية والمسببية التوليدية نظير العلاقة بين الإلقاء وبين الإحراق إذ لا يتوسط بينهما اختيار العبد وإرادته، نعم في محل الكلام تتوسط بين الحكم الشرعي وبين الضرر إرادة المكلف واختياره، فليس سبباً توليدياً حقيقة، لكنه ملحق به لأنَّ إرادة العبد مقهورة لإرادة المولى فيكون وجودها كعدمها فتكون كالسبب التوليدي، وهذه العلاقة تجعل السبب فرداً من أفراد الضرر عرفاً حقيقة لا مجازاً، فيطلق الضرر على الحكم حقيقة، نظير اطلاق الاحراق على الإلقاء، واطلاق القتل على رمي الرصاص، وعليه لا توجد مخالفة للظهور في ارادة نفي الحكم المسبِّب للضرر من نفي الضرر، لأنَّ المراد من الضرر المنفي الحكم، أي فرده الآخر، ويكون من باب استعمال اللفظ في أحد فرديه وهو استعمال حقيقي.
ولكن يصعب الالتزام بهذه المحاولة حتى في مثل الإلقاء والاحراق فضلاً عن محل الكلام، وذلك لأنَّ العرف لا يرى أنَّ هذا الفرد فرداً حقيقياً ثانياً لمفهوم الاحراق، وإنما يرى صحة اطلاق الاحراق على الالقاء، لهذه العلاقة القائمة بينهما فهو اطلاق غير حقيقي، أي هو من باب اطلاق المفهوم على غير فرده لوجود علاقة مصححة لهذا الاطلاق.
ولو صح ما ذُكر في مثال الاحراق والالقاء فهو لا يصح في محل الكلام وذلك لعدم وضوح علاقة السبية التوليدية بين الحكم وبين الضرر، وما ذكره من مقهورية ارادة العبد لإرادة المولى لا يبرر ذلك، بل ارادة العبد قائمة ومتوسطة بينهما.
فالظاهر أنَّ محاولة المحقق النائيني غير تامة، وعليه يمكن القول أنَّ جميع الوجوه فيها مخالفة لأحد الظهورات، والمهم تشخيص الظهور المرشح للسقوط، وتختلف النتيجة باختلافه.