47/05/03
/ قاعدة لا ضرر/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر/
إذا تم الوجه الأخير فهو يَسلَم من محذور التكرار وذلك لاختصاص (لا ضرر) بنفي الضرر المالي والمادي، ويكون نفي الضرر في غير ذلك بــ (لا ضرار)، لكن تمامية هذا الوجه محل تأمل، وذلك:
أولاً: لأنه لا يتم في جميع الموارد لأنا نرى أنَّ الضِّرار وغيره من صيغ المفاعلة استعمل في الضرر المالي في بعض الموارد مثل قوله تعالى: ﴿مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصَىٰ بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنٍ غَیۡرَ مُضَاۤرࣲّۚ﴾[1] والمراد ما يستدينه الرجل في حياته لإلحاق الضرر والنقص على الورثة، فالضرر هنا نقصان مالي في الإرث، وقد يستعمل الضرر في الأعم من الضرر المالي وغير المالي، فمن الأول قوله تعالى: ﴿قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی ضَرࣰّا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۗ﴾[2] إذ لا موجب لتخصيصه هنا بالضرر المادي، كما أنَّ النفع كذلك، ومن الثاني قوله تعالى﴿إِنَّهُمۡ لَن یَضُرُّوا۟ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ﴾[3] فإنَّ الضرر المنفي عنه سبحانه ليس من سنخ الضرر المادي، ومثل قوله تعالى ﴿لَن یَضُرُّوكُمۡ إِلَّاۤ أَذࣰىۖ وَإِن یُقَـٰتِلُوكُمۡ یُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ﴾[4] ، وقوله تعالى ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ﴾[5] .
وثانياً: إنَّ ما ذُكر لا يرفع المحذور السابق إلا إذا ادُعي اختلاف معنى الكلمتين، بحيث يكون معنى الضرر النقص المادي ومعنى الضرار النقص غير المادي، مضافاً الى أنه لم يُدعَ في هذا الوجه وإنما ادُعي شيوع الاستعمال، أنَّ ما ذكره لا يثبت به إلا أنَّ الضرر مثلاً استعمل كثيراً في النقص المالي والضرار استعمل كثيراً في النقص غير المالي، وأما أنَّ ذلك معناه وأنه لا يشمل غيره فهو لا يثبت بالموارد التي ذكرها، لوضوح أنَّ ذلك لا ينافي كون معناه هو الأعم واستعمل في أحد مصاديقه كثيراً، نعم إن كان الاستعمال كثيراً بحيث أوجب حدوث علقة جديدة بين اللفظ الموضوع للطبيعة وبين بعض حصصها فيمكن القول أنَّ معنى اللفظ هو الحصة إذا هُجرَ المعنى السابق، وحينئذٍ يرتفع الاشكال، لكن هذه الدعوى بحاجة الى إثبات، وقد تقدم أنَّ الأقرب في تفسير مادة الضرر هو أنها تدل على مطلق النقص - الأعم من المادي والمعنوي - ولكن إذا كان سبباً للحرج والضيق، وعليه فمعنى المادة واحد وهو الضرر الأعم إذا كان موجباً للضيق والحرج، ولا يتعدد بتعدد الهيئة فإذا كان هناك تعدد فلابد أن يستند الى الهيئة، وقد عرفت عدم صحة ذلك، إذن هذه مجرد موارد استعمال، وشيوع استعمال الضرر في النقص المادي الموجب للضيق لا يمنع من شمول الضرر بحسب معناه لغير النقص المادي، فيمكن نفي الضرر فيه بــــ (لا ضرر) فيعود المحذور السابق.
مع أنه يمكن أن يقال أنَّ اللفظ في هذه الموارد لم يستعمل إلا في معناه العام لا في الحصة بما هي حصة، وإنما استُفيدت الخصوصية من القرائن من باب تعدد الدال والمدلول.
وتلخص من جميع ما تقدم أنَّ الوجوه المذكورة لتفسير كلمة (ضرار) يرد عليها المحذور السابق، وحينئذٍ نقول:
لا إشكال في أنَّ هناك فرق بين كلمة (ضرر) وكلمة (ضرار) وهذا الفرق يمكن أن يتحقق بالالتزام بأحد الوجوه السابقة، والأقرب هو تفسير الضرار بما تقدم من أنه يعني تكرر صدور الضرر واستمراره، وهذا يُحقق الفرق بين الكلمتين، وإن لم نقل أنَّ الضرر أُخذ فيه عدم التكرر والاستمرار، لأنه يكفي فيه عدم أخذ التكرر والاستمرار فيه، واخذه في الضرار، نعم يبقى اشكال أنَّ الضرر في موارد الضِّرار بأي معنى فُسِّر يمكن نفيه بــ (لا ضرر) فيكون ذكر (لا ضرار) بلا فائدة.
والظاهر أنه لا محيص عن الالتزام بذلك، وحينئذٍ يحمل (لا ضرار) على التأكيد بلحاظ نفي الضرر، مثل أن يقال: لا يمين ولا حلف إلا بالله، أو يقال: لا طلاق ولا فراق إلا على طهر، بل المقام أحسن حالاً للفرق بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومنه يظهر أنَّ الفرق بين معنى الكلمتين ثابت بأخذ التكرار والاستمرار أو التعمد ونحوه في مفهوم الضِّرار، وعدم أخذه في مفهوم الضرر، وهذا ثابت كما عرفتَ، ولا توجد مشكلة من هذه الناحية، وإنما المشكلة في لزوم محذور التكرار بلحاظ الحكم أي نفي الضرر، وقلنا أنه يمكن التخلص منه بادعاء أخذ عدم التكرار أو التعمد في الضرر، لكنك عرفت عدم صحة ذلك، فلا مناص من حمله على التكرار.
وأما دعوى تطبيق ما قيل من أنَّ الكلمتين إذا افترقا اتحدا وإذا اجتمعا افترقا مثل الفقير والمسكين، فهو غير نافع في المقام لأنَّ المفروض أنَّ المعنى مختلف حتى إذا افترقا، فضلاً عما إذا اجتمعا، وذلك لما عرفتَ من أنَّ الضِّرار أُخذ فيه التكرار أو التعمد، والضرر لم يؤخذ فيه ذلك، وهذا يكفي في اختلاف معنى الكلمتين، بخلاف الفقير والمسكين فإنَّ معناهما واحد فيقال حينئذٍ إذا اجتمعا اختلفا، وعليه فالضرر غير المتكرر وغير المستمر أو غير المتعمد يُنفى بـــ (لا ضرر)، والضرر المتكرر أو المستمر أو المتعمد يُنفى بـــ (لا ضرار) ويمكن نفيه بــ (لا ضرر).