47/05/02
/ قاعدة لا ضرر/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر/
تتمة الكلام حول صيغ المفاعلة:
تقدم الوجه الأول - غير المشاركة التي ذكرها علماء العربية - وهو السعي الى الفعل نحو (قاتل) التي تعني السعي الى وقوعه في الخارج.
والوجه الثاني ما ذكره المحقق الأصفهاني وهو أنَّ هيئة المفاعلة تقتضي تعدي المادة الى ما لم تكن هيئة المجرد تقتضي التعدي إليه، واستفاد من ذلك معنى التعدي لإلحاق المعنى بالغير.
أقول: لا يبعد رجوع هذا الوجه الى الوجه السابق، لأنَّ السعي بمعنى التعدي الى الفعل، بل يمكن إرجاعه الى ما تقدم سابقاً من كون معناه هو قصد الفعل وتعمده باعتبار أنَّ السعي والتعدي يستلزم القصد والتعمد.
وعلى كل حال يرد عليه ما تقدم سابقاً من لزوم محذور التكرار، لأنَّ الضِّرار بهذا المعنى يمكن نفيه بــ (لا ضرر) ولا يبقى مورد يتوقف نفي الضرر فيه على (لا ضِرار).
الوجه الثالث ما قيل من أنَّ هيئة المفاعلة تدل على نسبة مستتبعة لنسبة أخرى - بالقوة أو بالفعل - وذلك يختلف باختلاف الموارد، فتارة تكون النسبة الأخرى كالأولى صادرة من نفس الفاعل وبالنسبة الى نفس الشيء نحو (سافَرَ)، وأخرى تكون أحداهما صادرة من الفاعل والأخرى صادرة من المفعول كما في (ضارَبَ)، ويُعبَّر عن المعنى الأول بالامتداد والطول والاستمرار، ويُعبَّر عن المعنى في الثاني بالمشاركة أو التكرار.
والحاصل: أنَّ هيئة المفاعلة تعني تكرر صدور المعنى من الفاعل أو استمرار صدوره من غيره، ويجمعهما أنها تعني تكرر صدور الفعل واستمراره من الفاعل نفسه أو من المفعول.
وهذا المعنى أيضاً يرد عليه ما تقدم لأنَّ الضرر المتكرر أو المستمر يمكن نفيه بــ (لا ضرر).
فإن قيل: إنَّ (لا ضرر) إنما تنفي الضرر وهو مقيد بالوحدة فلا يمكن نفي الضرر المتكرر أو المستمر به، بل يُنفى بــ (لا ضرار) فلا تكرار حينئذٍ.
قلنا: مضافاً الى غرابة تقيُّد معنى الضرر بالوحدة، وعدم الشاهد عليه، أنَّ الضرر المتكرر يمكن نفي كل واحد منها بــ (لا ضرر) لكونه واحداً، وأما الضرر المستمر فإن كان واحداً بالنظر العرفي شملته فقرة (لا ضرر)، وإن كان متعدداً كان بحكم المتكرر.
وعلى كل حال المهم معرفة معنى كلمة (ضِرار) في الحديث، فإن أمكن ذلك بالرجوع الى باب المفاعلة بحيث استطعنا تحديد المعنى بشكل واضح فلابد من البناء عليه، لأنَّ هيئة (ضِرار) من صيغ المفاعلة فيتحدد معناه على هذا الأساس، وأما إذا لم يتيسر ذلك - كما هو الظاهر - لأنَّ هناك أسئلة لم نتمكن من الجواب عنها مثل: أنَّ باب المفاعلة هل له معنى واحد لجميع صيغه أو أنَّ لكل واحد منها معنى يختلف عن الباقي، وعلى الأول هل يمكن تحصيل معنى واحد جامع لكل موارد هذا الباب أو لا يمكن تحصيله؟
الظاهر الثاني لأنَّ كل المعاني التي ذُكرت لباب المفاعلة ليست جامعة لجميع صيغه، بل تصلح أن تكون معنى في بعض الموارد لا في جميعها.
والأقرب أنَّ كل واحد من صيغ المفاعلة له معنى يختلف عن الباقي فإذا كان معنى صيغة (مفاعلة) المشاركة فليس من الضروري إن تكون صيغة (فِعال) كذلك.
وعلى كل حال المعهم معرفة معنى كلمة (ضرار) في الحديث وقد عرفتَ أنَّ جميع ما تقدم من تفاسير لا تسلم عن الاشكال، فالأقرب أن يقال:
إنَّ المتتبع لموارد استعمال كلمة (ضرار) و (الضرر) يلاحظ أن غالب استعمالات الضرر والضَّر والاضرار إنما هو في الضرر المالي أو النفسي، بخلاف (الضِّرار) فإنها تستعمل في التضييق والحرج والكلفة ونحو ذلك، والظاهر غلبة هذا الاستعمال وشيوعه، ففي القرآن الكريم استعمل الضِّرار في هذا المعنى لا في الضرر المالي مثل قوله تعالى:﴿لَا تُضَاۤرَّ وَالِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودࣱ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ ﴾[1] فإنه فُسِّر بامتناع الزوج من مقاربة الزوجة إذا كان له ولد رضيع بحجة خوف حملها فيموت الرضيع، أو امتناع المرأة من تمكين الزوج خوفاً على رضيعها كذلك، وهذا ليس من الضرر المالي وإنما يوجب الضيق والحرج، وهناك تفسير آخر للمضارة، للوالدة بنزع الرجل الولد عنها، وللوالد بامتناعها من ارضاع ولده، وعلى كل حال فالمضارة على هذين التفسيرين ترجع الى معنى التضييق وإيصال المكروه لا الى الضرر المالي.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارࣰا لِّتَعۡتَدُوا۟﴾[2] وهي مفسرة بالرجل يُطلق زوجته حتى إذا قرب انتهاء الأجل أرجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات، وهذا أيضاً يرجع الى ما تقدم وليس من قبيل الضرر المالي.
وكذا قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا﴾[3] فإنه بمعنى إيصال المكروه الى المؤمنين بإيقاع الشك في قلوبهم وتفريق جمعهم كما ورد في تفسيرها.
وكذا قوله تعالى: ﴿وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ﴾[4] فإنَّ الفعل ﴿يُضار﴾ إما مبني للفاعل أي: لا يُضارُ الكاتبُ، ولا يُضارُ الشهيدُ، ويكون النهي متوجه إليهما، والمراد وقوع المضارة منهما بالامتناع من الاجابة أو بالتحريف في الشهادة بالزيادة أو النقصان، وإما مبني للمفعول أي: لا يُنزل بهما ضرر بأن يُكلفا بقطع مسافة بمشقة من دون تحمل مؤنتهما، وهذا أيضاً ليس ضرراً مالياً ولا نفسياً.
وكذا قوله تعالى: ﴿وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا۟ عَلَیۡهِنَّۚ﴾[5] المفسرة بعدم إسكانهن في بيوت مناسبة لحالهن فيقعن في الضيق وفي الحرج.
وكذا قوله صلى الله عليه وآله في قضية سمرة بن جندب في بعض الروايات (إنك رجل مُضار) فهو بمعنى إنزال الضيق والحرج على الأنصاري.