« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

47/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

/ قاعدة لا ضرر/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر/

 

قاعدة لا ضرر

البحث في هذه القاعدة مهم جداً لما يترتب عليها من ثمرات تظهر في مختلف المسائل، ويظهر منهم أنَّ البحث عنها في علم الأصول استطرادي، حيث بحثوها فيه تبعاً للشيخ الأعظم الذي ذكرها لمناسبة الشرط الثاني الذي ذكره الفاضل التوني، وهو أن لا يكون جريان البراءة مستلزماً للإضرار بالغير، وإلا فإنَّ القاعدة فقهية كما قالوا، ومن هنا أعتبرها المحقق الخراساني أجنبية عن مسائل علم الأصول.

وهناك كلام في تصنيف هذه القاعدة، والمعروف أنها قاعدة فقهية مفادها إثبات حكم شرعي ولو نفياً، فإنَّ لسانها لسان نفي الحكم الضرري، أو قل نفي ثبوت الحكم الضرري في الشريعة لا إثبات حكم في مورد، ومع ذلك ذهب البعض الى أنها مسألة أصولية، ولهم كلام طويل في هذا رأينا ترك الدخول في تفاصيله لعدم ترتب ثمرة عملية عليه، والنتائج التي نصل إليها واحدة على التقديرين كما صرح أكثر من واحد بذلك، إلا ما تقدم من لزوم الاستطراد بناءً على فقهيتها، ولا يكون كذلك على أصوليتها، وليس بمهم.

ومفاد القاعدة إجمالاً هو نفي الحكم الضرري، أو عدم تشريع الحكم في مورد الضرر، وهذا يستلزم تقييد الأحكام الأولية بغير موارد الضرر، ومن هنا قالوا أنها تكون حاكمة على أدلة الأحكام الأولية، فإذا دلَّ الدليل على وجوب الوضوء مثلاً فالقاعدة تقول إذا لزم من ايجابه الضرر على المكلف فهذا الحكم منفي، وهكذا في سائر الموارد، وهنا تكمن أهمية هذه القاعدة، فهي تكون حاكمة على جميع أدلة الأحكام الشرعية المثبتة لها بعناوينها الأولية.

والمراد بالضرر المنفي هو الضرر الشخصي لا الضرر النوعي، فإذا لم يتضرر المكلف من هذا الحكم وإن تضرر نوع المكلفين منه فلا معنى لنفي الحكم بالنسبة له، وسيأتي تفصيله.

منهج البحث:

والكلام يقع في مقامات:

الأول: في أدلة القاعدة ومدى إمكان الاعتماد عليها.

الثاني: في التهافت الموجود في خبر نفي الضرر.

الثالث: في معنى مفردات القاعدة.

الرابع: في تنبيهات القاعدة، وهي كثيرة تبلغ إثنا عشر.

أما المقام الأول في استعراض الأدلة التي يُستدل بها على هذه القاعدة، وهي عديدة يمكن تقسيمها الى طوائف:

الطائفة الأولى: الروايات الواردة في قضية سَمُرة بن جندب مع الأنصاري، وتشتمل على عدة روايات:

الرواية الأولى: وهي أهم روايات الطائفة – بل لعلها الأهم مطلقاً – وهي ما في الكافي بسندٍ صحيح عن عبد الله بن بكير عن زرارة ج5 ص 292 الحديث 2 [1] ، وفي الوسائل ج25ص 428، باب12 من أبواب إحياء الموات الحديث3، وهي كما في المصدر:

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ [يعني البرقي] عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ:

(إِنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ كَانَ لَهُ عَذْقٌ فِي حَائِطٍ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَ مَنْزِلُ الْأَنْصَارِيِّ بِبَابِ الْبُسْتَانِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِهِ إِلَى نَخْلَتِهِ وَلَا يَسْتَأْذِنُ، فَكَلَّمَهُ الْأَنْصَارِيُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ إِذَا جَاءَ، فَأَبَى سَمُرَةُ، فَلَمَّا تَأَبَّى جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) فَشَكَا إِلَيْهِ وَخَبَّرَهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَخَبَّرَهُ بِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ وَمَا شَكَا، وَقَالَ إِنْ أَرَدْتَ الدُّخُولَ فَاسْتَأْذِنْ، فَأَبَى فَلَمَّا أَبَى سَاوَمَهُ حَتَّى بَلَغَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَ، فَقَالَ لَكَ بِهَا عَذْقٌ يُمَدُّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) لِلْأَنْصَارِيِ‌ اذْهَبْ فَاقْلَعْهَا وَارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ).

والسند معتبر، أما العدة عن أحمد بن محمد بن خالد فمعروفة، وتشتمل على أربعة وفيهم علي بن إبراهيم القمي، وهو كاف في الاعتماد عليها، وأحمد بن محمد بن خالد وأبوه ثقتان، وإن قيل في حق الأب أنه يروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل، إلا أنه في نفسه موثق، وعبد الله بن بكير ثقة بلا إشكال عن زرارة.

ورواها الشيخ الصدوق في الفقيه ج3 ص233 بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة، ولا إشكال في صحة سندها، وطريقه الى عبد الله بن بكير مذكور في المشيخة، وهو صحيح، قال:

(وما كان فيه عن عبد اللّه بن بكير فقد رويته عن أبي- رضي اللّه عنه- عن عبد اللّه ابن جعفر الحميريّ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن عبد اللّه بن بكير)[2]

الرواية الثانية: ما في الكافي أيضاً عن عبد الله بن مُسكان عن زرارة ج5 ص 294 الحديث 8:[3]

(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُنْدَارَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ [يعني البرقي] عَنْ أَبِيهِ [محمد بن خالد البرقي] عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْكَانَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ:

(إِنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ كَانَ لَهُ عَذْقٌ وَ كَانَ طَرِيقُهُ إِلَيْهِ فِي جَوْفِ مَنْزِلِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَكَانَ يَجِي‌ءُ وَ يَدْخُلُ إِلَى عَذْقِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ يَا سَمُرَةُ لَا تَزَالُ تُفَاجِئُنَا عَلَى حَالٍ لَا نُحِبُّ أَنْ تُفَاجِئَنَا عَلَيْهَا، فَإِذَا دَخَلْتَ فَاسْتَأْذِنْ، فَقَالَ لَا أَسْتَأْذِنُ فِي طَرِيقٍ وَ هُوَ طَرِيقِي إِلَى عَذْقِي، قَالَ فَشَكَا الْأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ فُلَاناً قَدْ شَكَاكَ وَ زَعَمَ أَنَّكَ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَ عَلَى أَهْلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهِ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْذِنُ فِي طَرِيقِي إِلَى عَذْقِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص) خَلِّ عَنْهُ وَ لَكَ مَكَانَهُ عَذْقٌ فِي مَكَانِ كَذَا وَ كَذَا، فَقَالَ لَا قَالَ فَلَكَ اثْنَانِ، قَالَ لَا أُرِيدُ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُهُ حَتَّى بَلَغَ عَشَرَةَ أَعْذَاقٍ، فَقَالَ لَا، قَالَ فَلَكَ عَشَرَةٌ فِي مَكَانِ كَذَا وَ كَذَا فَأَبَى، فَقَالَ خَلِّ عَنْهُ وَ لَكَ مَكَانَهُ عَذْقٌ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ لَا أُرِيدُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ وَ لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ عَلَى مُؤْمِنٍ، قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ص فَقُلِعَتْ ثُمَّ رُمِيَ بِهَا إِلَيْهِ، وَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص) انْطَلِقْ فَاغْرِسْهَا حَيْثُ شِئْتَ.)

وهذه الرواية غير تامة سنداً للإرسال، خصوصاً أنَّ المرسل هو محمد بن خالد البرقي الذي قيل حقه أنه يروي عن الضعفاء كثيراً.

الرواية الثالثة: ما رواه الصدوق في الفقيه ج3 ص103 [4] ، وفي الوسائل ج25 ص 428 الحديث 1:

(رَوَى الْحَسَنُ الصَّيْقَلُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع)‌ كَانَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ نَخْلَةٌ فِي حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَكَانَ إِذَا جَاءَ إِلَى نَخْلَتِهِ نَظَرَ إِلَى شَيْ‌ءٍ مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ يَكْرَهُهُ الرَّجُلُ، قَالَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) فَشَكَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَمُرَةَ يَدْخُلُ عَلَيَّ بِغَيْرِ إِذْنِي فَلَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْهِ فَأَمَرْتَهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ حَتَّى تَأْخُذَ أَهْلِي حِذْرَهَا مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) فَدَعَاهُ فَقَالَ يَا سَمُرَةَ مَا شَأْنُ فُلَانٍ يَشْكُوكَ وَ يَقُولُ يَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنِي فَتَرَى مِنْ أَهْلِهِ مَا يَكْرَهُ ذَلِكَ يَا سَمُرَةُ اسْتَأْذِنْ إِذَا أَنْتَ دَخَلْتَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَذْقٌ فِي الْجَنَّةِ بِنَخْلَتِكَ، قَالَ لَا، قَالَ لَكَ ثَلَاثَةٌ، قَالَ لَا، قَالَ مَا أَرَاكَ يَا سَمُرَةُ إِلَّا مُضَارّاً، اذْهَبْ يَا فُلَانُ فَاقْطَعْهَا وَ اضْرِبْ بِهَا وَجْهَهُ‌.)

وهذه الرواية يُستشكل في سندها من جهتين:

الأولى: من جهة الحسن بن زياد الصيقل، فإنه لم يوثق في كتب الرجال، نعم روى عنه بعض أصحاب الاجماع الذين ذكرهم الكشي، وفي عدهم خلاف، وواحد منهم روى عن الصيقل، فقد يُجعل دليلاً على وثاقته، وأيضاً روى عنه جعفر بن بشير الذي ذكر النجاشي في ترجمته أنه (روى عن الثقات ورووا عنه)، وقد روى عن الصيقل فيدخل في الفقرة الأولى.

لكن كلا الأمرين غير تام، أما الأول فواضح إذ لم يثبت أنَّ أصحاب الاجماع لا يروون إلا عن ثقة كما هو الحال في ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي، الذين ثبت أنهم يلتزمون بعدم الرواية إلا عن ثقة، وأما أصحاب الإجماع فلم يثبت فيهم ذلك إلا بناءً على بعض التفسيرات للعبارة، لكنها غير تامة، والصحيح هو أنَّ المقصود منها هو امتياز هؤلاء بأنهم ثقات متفق على وثاقتهم، في قبال غيرهم من الذين لا يوجد إتفاق على وثاقتهم.

وأما ما ذكره النجاشي فليس فيه دلالة على وثاقة كل من يروي عنه جعفر بن بشير.

الثانية: في طريق الشيخ الصدوق الى الحسن بن زياد الصيقل.


logo