47/03/27
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
كان الكلام في الشرط الأول الذي ذكره الفاضل التوني قده، وهو أن لا يكون جريان البراءة مستلزماً لثبوت حكم إلزامي من جهة أُخرى، ومَثَّل له بالعلم الإجمالي، وقال يُمنع من إجراء البراءة في أحد الطرفين لاستلزامه ثبوت حكم إلزامي في الطرف الآخر.
وهذا الشرط بهذه الصياغة يمكن تخريجه بأحد أمرين:
التخريج الأول: وهو الذي يبتني على إشكال المثبتية، بدعوى أنَّ أصالة البراءة لا يترتب عليها وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لأنَّ الأصل يكون مثبتاً، وذلك لأنَّ الترتب بين عدم وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين وبين وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ليس ترتباً شرعياً وإنما هو ترتب عقلي من جهة العلم الإجمالي.
ويلاحظ عليه: بأنَّ الظاهر أنَّ المانع من جريان الأصل في أحد الطرفين ليس هو المثبتية، بدليل المنع من جريان الأمارة الدالة على جواز الارتكاب في أحد الطرفين فيما لو كان كُلاً منهما مورداً لها للمعارضة لا للمثبتية، مع وضوح أنَّ مثبتات الأمارة حجة، ونفس الكلام يقال في الأصل العملي فإنَّ كُلا منهما مورد لجريان أصالة البراءة فلا تجري للمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر لا للمثبتية.
نعم إذا فرضنا عدم جريان الأصل في أحد الطرفين بعينه لمانع فحينئذٍ نقول: بناءً على مسلك الإقتضاء لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر، لكنه لا يعني أنَّ الأصل يثبت وجوب الإجتناب عن هذا الطرف – أي الذي لا يجري فيه – وإنما يثبت ذلك بمنجزية العلم الإجمالي مع عدم جريان الأصل المؤمِّن فيه، وأما على مسلك العلية فالبراءة لا تجري في أحد الطرفين بقطع النظر عن المعارضة، وذلك لأنَّ العلم الاجمالي يكون علة تامة للتنجيز بحسب هذا المسلك.
وعليه فالأصل المؤمِّن في بعض الأطراف إما أن لا يجري أصلاً بناءً على العلية، أو يجري ويسقط بالمعارضة بناءً على الاقتضاء، أو يجري في أحدهما في حالة عدم جريانه في الآخر لمانع بناءً على الاقتضاء أيضاً، ولكنه لا يُثبت وجوب الاجتناب عن الآخر وإنما يثبت بمنجزية العلم الإجمالي، وعلى كل حال لا يصح تعليل عدم جريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي بكونه مثبتاً.
وأما في غير موارد العلم الإجمالي فلا مانع من أن يقال بأنَّ أصالة البراءة لا تجري في الشبهات البدوية إذا أريد بها إثبات اللوازم غير الشرعية أو إثبات آثارها لأنَّ الأصل يكون مثبتاً.
وعليه فإذا كان مراد الفاضل التوني قده الاشارة الى الأصل المثبت فهو صحيح، ولكن التمثيل له بموارد العلم الإجمالي ليس صحيحاً، على أنه هذا لا يختص بالبراءة، بل يعم جميع الأصول العملية بما فيها الاستصحاب، فلا يكون ذلك شرطاً لجريان البراءة.
التخريج الثاني: وهو أن يقال إنَّ أدلة البراءة واردة مورد الامتنان وهو ملاكها، فلا تجري في مورد يكون جريانها فيه على خلاف الامتنان، لقصور أدلتها عن شموله، فيقال في مقام تطبيق ذلك في محل الكلام بأنَّ جريان البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي حيث يستلزم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر فلا يكون جريانها في هذا الطرف إمتنانياً.
ويلاحظ عليه: أنَّ البراءة في معظم أدلتها غير ثابتة بملاك الامتنان، أما الآيات التي استدل بها على البراءة فخالية عن الاشارة الى الامتنان، فمنها قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء ١٥]، ومنها: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام ١٤٥] ، ومنها: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق ٧]، والجميع خال عن ذلك كما ترى.
وكذا الروايات من قبيل حديث الحجب (ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم)، وحديث الحل (كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام)، نعم ادعي ذلك في حديث الرفع لقوله: (رفع عن أمتي) الذي استُفيد منه الامتنان، إلا أنه لا يمنع من التمسك بأدلة البراءة الأخرى لإثبات جريانها في الموارد الأخرى، وذلك لأنَّ حديث الرفع ليس له مفهوم صالح لتقييدها، وهذا كله بقطع النظر عن ملاحظة أدلة أخرى تمنع من جريان البراءة باعتبار لزوم ايقاع الضرر على الغير، بل نفس أدلة البراءة مطلقة فيمكن التمسك بها في تلك الموارد.
وأما الشرط الثاني - وهو أن لا يلزم من جريانها ايقاع الضرر على مسلم أو من بحكمه – فيدعى إمكان تخريجه على أساس الامتنان أيضاً، فيقال إنَّ أدلة البراءة إمتنانية فلا تجري في موردٍ لا يثبت فيه الامتنان كما إذا لزم الاضرار بالغير، فإنَّ الملاك غير ثابت على هذا التقدير.
وفيه ما تقدم من أنَّ معظم أدلة البراءة خالية عن الاشارة الى ملاك الامتنان إلا ما يُدعى في حديث الرفع، ولو سُلِّم فهو يختص به ولا موجب لتقييد إطلاق الأدلة الأخرى به كما تقدم.
وبهذا ينتهي الكلام عن شروط الأصول العملية، ثم يقع الكلام في قاعدة لا ضرر إن شاء الله تعالى.