47/03/14
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
بعد أن فرغنا عن أنَّ جريان البراءة مشروط بالفحص دخلنا في مسألة متفرعة على ذلك، وهي ما هو حكم العمل الصادر من الجاهل التارك للفحص من حيث الصحة والبطلان؟
كما لو شك المكلف في اعتبار شيء في الصلاة ولم يفحص وأجرى البراءة لنفي اعتبار ما يشك في اعتباره، وصلى اعتماداً على أصالة البراءة، فما هو حكم هذا العمل الذي صدر منه في حال الجهل؟
انتهينا الى أنَّ صحة هذا العمل وبطلانه يدور مدار الواقع، غاية الأمر إنه إن كان مطابقاً للواقع فيحكم بصحة العمل ويترتب عليه عدم استحقاق العقاب لعدم مخالفة الواقع، وإن كان هناك عقاب فمن جهة التجري، وإن كان مخالفاً للواقع فيحكم ببطلان العمل ويترتب عليه استحقاق العقاب، ولكنه ليس على ترك الفحص والتعلم وإنما على مخالفة الواقع، وذلك لما تقدم من أنَّ وجوب التعلم إرشادي لا يترتب على مخالفته استحقاق العقاب، هذه هي القاعدة في المقام.
ولكن حصل التخلف عن هذه القاعدة في مسألتين معروفتين: مسألة الجهر والإخفات، ومسألة القصر والتمام، حيث التزم الفقهاء بصحة عمل الجاهل بوجوب الإخفات والجهر إذا جهر في الاخفاتية أو أخفت في الجهرية، مع أنَّ عمله مخالف للواقع، وهذا خلاف القاعدة المتقدمة، كما التزموا في هذا المورد باستحقاق العقاب، ونفس الكلام يقال في مسألة القصر والتمام، فإذا أتم المسافر جاهلاً بوجوب القصر فمقتضى القاعدة الحكم ببطلان العمل، لكنهم إلتزموا بصحة العمل وعدم وجوب الاعادة، والتزموا أيضاً باستحقاق العقاب، مع أنَّ مقتضى القاعدة هو الحكم بالبطلان مع استحقاق العقاب.
ومن هنا تكون مخالفتهم للقاعدة من جهتين: الأولى التزامهم بالصحة ومقتضى القاعدة هو الحكم بالبطلان، والثانية التزامهم باستحقاق العقاب مع الحكم بالصحة، والجمع بينهما ليس واضحاً.
ومن هنا وقع الكلام في أنه هل يمكن فرض حالة يجتمع فيها الأمران صحة العمل واستحقاق العقاب أو لا؟
ذكروا وجوهاً لإثبات اجتماع الأمرين، وبالتالي تصحيح ما ذهب إليه المشهور:
الوجه الأول: وهو الالتزام بأنَّ ما يأتي به الجاهل التارك للفحص كالصلاة تماماً ليس واجباً أصلاً، نعم هو شيء يسقط به الواجب الواقعي وهو في هذا الفرض الصلاة قصراً، فيُحكم بالصحة لسقوط الواجب الواقعي بما جاء به، كما يحكم باستحقاق العقاب لتركه الفحص والتعلم المؤدي الى مخالفة الواقع.
وفيه: - كما عن اشيخ وغيره - أنه خلاف ظاهر الأدلة الدالة على الصحة وتمامية العمل، مما يعنى أنَّ ما جاء به هو الواجب.
الوجه الثاني: ما نقل عن الشيخ كاشف الغطاء من الالتزام بالترتب، بمعنى أنَّ الواجب على المكلف هو القصر، لكنه لا يعني أنَّ التمام ليس مأموراً به، بل كذلك ولكن على نحو الأمر الترتبي، فيقال للمكلف يجب عليك القصر فإن عصيت الأمر بالقصر وجب عليك التمام، فيكون مأموراً به بالأمر الترتبي، فإذا جاء بالتمام صحَّ بلا إشكال، كما يستحق العقاب على مخالفة الواجب الواقعي، وبذلك أمكن الجمع بين الحكم بصحة العمل وبين استحقاق العقاب على مخالفة الواقع.
وهذا الوجه أخذ حيزاً من اهتمام الأعلام، وأجيب عنه بوجوه:
أولاً: بما ورد في فوائد الأصول[1] ، وحاصله أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطاً بعصيان الأهم، كما ذكروا في فرض وجوب الصلاة مع إزالة النجاسة عن المسجد، فيقال للمكلف إذا عصيت الأمر بالإزالة وجبت عليك الصلاة، وهذا لا يمكن تحقيقه في محل الكلام إذ لا يُعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان (العاصي) لأنَّ المفروض أنه جاهل بوجوب الأهم فإذا خوطب بذلك إلتفت الى أنه عاصٍ لوظيفة أهم وهي وجوب القصر، فيخرج بذلك عن كونه جاهلاً بوجوب القصر، فلا يشمله الخطاب الترتبي ولا يكون محركاً له، نعم يمكن أن يخاطب بعنوان (التارك) ولا يخرج بذلك عن كونه جاهلاً فلا مانع من شمول الخطاب الترتبي له.
وهذا الكلام مرجعه الى أنَّ الخطاب الترتبي لا يعقل وصوله الى المكلف وبالتالي لا يعقل جعله، وذلك باعتبار أنَّ الأمر الترتبي مشروط بالعصيان، وهو يعني أنَّ موضوع هذا الخطاب هو الجاهل العاصي، ومع التفات المكلف الى هذا الخطاب يخرج عن كونه موضوعاً له، وهو معنى عدم وصول الخطاب إليه.
وبعبارة أخرى: من الواضح أنَّ الجاهل بالحكم لا يُصَدِّق أنه عاصي إلا إذا ارتفع جهله بوصول الحكم الواقعي إليه، ومع وصوله إليه يخرج عن كونه جاهلاً فلا يشمله الخطاب الترتبي.
وأجاب السيد الخوئي عنه[2] بأن مسألة الترتب لا تتوقف على أن يكون موضوعه هو عصيان التكليف، بل يكفي في تصحيح الترتب بأن تُقيد بالترك، فيقال: إذا تركت الأمر بالإزالة وجبت عليك الصلاة، وفي محل الكلام يعلم المكلف أنه تارك للقصر وجاهل بوجوب فيحرز لموضوع ويشمله الخطاب، ولا يلزم منه محذور الخروج عن كونه جاهلاً.