« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/12/03

بسم الله الرحمن الرحيم

/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/

 

ذكرنا في الملاحظة الأخيرة على ما ذكره المحقق النائيني – وهو أنَّ العقاب يكون على المجموع المركب من ترك التعلم ومخالفة الواقع – أنَّ العقاب على مخالفة الواقع مستحيلة للجهل به وعدم وصوله فيكون قبيحاً، كما أنَّ العقاب على ترك التعلم لا يمكن الالتزام به لأنَّ وجوبه طريقي ولا يكون العقاب في الواجبات الطريقية إلا على ذي الطريق، فكيف ينتج من ضم أحدهما الى الآخر موضوعاً يترتب عليه العقاب على تقدير المخالفة!

وفي مقام توجيه كلامه ذكرنا أنَّ مقصوده قد يكون أنَّ استحالة العقاب على مخالفة الواقع تتوقف على عدم وصول الواقع وعدم تنجُّزه بمنجِّزٍ، وأما إذا تحقق أحد هذين الأمرين فلا يكون العقاب قبيحاً، بل يكون عقاباً في محله، فكأنه بقوله بالاستحالة يفترض عدم وصول الواقع وعدم وجود ما ينجِّز الواقع، وعليه فلا يترتب العقاب إلا على ترك التعلم، لكنه لا يترتب عليه مطلقاً - أي وافق الواقع أو خالفه – لأنَّ وجوبه طريقي فلا بد أن يكون العقاب على ترك التعلم المؤدي الى مخالفة الواقع.

وفيه: أنه افتُرض في هذا التوجيه عدم وجود ما يُنجِّز الواقع فيكون العقاب على ترك التعلم، وقد تقدم أنَّ هناك ما يُنجِّزه وهو نفس الأمر بالتعلم، فلا تتم المقدمة المذكورة في كلامه - أي عدم وصول الواقع، بل لا يوجد ما ينجِّزه - حتى يصح توجيه كلامه.

وذكرنا بأنَّ الاحتمالات في وجوب التعلم عديدة:

    1. أنَّ وجوب التعلم وجوب نفسي استقلالي.

    2. أنَّ وجوب التعلم وجوب تَهيُّئي، والمراد به أن يتهيأ المكلف بتعلم الإحكام الشرعية مقدمة لامتثالها.

    3. أن يكون وجوبه وجوباً شرطياً، والمقصود به هو أن يكون التعلم شرطاً لحجية أدلة الأحكام الشرعية.

    4. أن يكون وجوبه وجوباً مقدمياً غيرياً، بمعنى أنَّ يكون التعلم مقدمة للعمل بأدلة الأحكام الشرعية.

    5. أن يكون وجوبه وجوباً إرشادياً محضاً الى ما يسقل به العقل من لزوم الفحص للفرار عن احتمال العقاب إما بملاك العلم الإجمالي وإما بملاك منجزية الاحتمال قبل الفحص.

    6. أن يكون وجوبه طريقياً لتنجيز الواقع.

والظاهر أنَّ الأمر دائر بين الاحتمالين الأخيرين - الإرشادية والطريقية - وأما الاحتمالات الأخرى فيمكن نفيها، أما الوجوب النفسي الاستقلالي فواضح البطلان وذلك باعتبار أنَّ لازمه هو استحقاق العقاب على تركه، حتى لو عمل بالاحتياط بلحاظ الواقع، فلو كان يحتمل حرمة شيء فترك التعلم وتركه احتياطاً ووافق الواقع فيلزم أن يستحق العقاب على ترك التعلم، ولا يُظن أنَّ أحداً يلتزم به.

وأيضاً من الواضح إعمال المولوية والتعبد الشرعي في الوجوب النفسي الاستقلالي، فيكون وجوب التعلم كسائر الأحكام الشرعية، وحينئذٍ يقال إنه خلاف ظاهر أدلة وجوب التعلم، ومنها معتبرة مسعدة بن زياد المتقدمة، وذلك باعتبار أنَّ العبد يحتج بالجهل في تركه العمل فيقال له: (أَ فَلاَ تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ) [1] فلو كان وجوب التعلم وجوباً شرعياً لكان كسائر المجعولات الشرعية يكفي في الاعتذار عنه بالجهل كما اعتذر به عن عدم العمل بالتكاليف الشرعية، لكن الرواية في مقام افحامه واسكاته، وهو لا يكون إلا إذا فرضنا أنَّ وجوب التعلم ثابت بقطع النظر عن التعبد الشرعي.

والحاصل أنَّ وجوب التعلم لو كان وجوباً مجعولاً شرعياً لكان حاله حال سائر الأحكام المجعولة شرعاً وكان بإمكان العبد أن يعتذر بعدم علمه، في حين أنَّ ظاهر معتبرة مسعدة إفحام العبد بذلك، وهذا يعني أنَّ وجوب التعلم ليس أمراً تعبدياً ومجعولاً شرعياً وإنما كان أمراً ملزماً للعبد بقطع النظر عن الجعل الشرعي.

وبنفس هذا الملاك يمكن نفي الاحتمالين الثاني والثالث فإنهما يشتملان على إعمال المولوية أيضاً بجعل وجوب التعلم شرطاً وهو مخالف لظاهر الرواية كما تقدم.

وأما الاحتمال الرابع فيمكن نفيه بأنَّ التعلم ليس مما يتوقف عليه امتثال الاحكام الشرعية لإمكان الاحتياط، فليس في التعلم ملاك الوجوب الغيري المقدمي وهو التوقف، فيدور الأمر بين الارشادية والطريقية.

ذهب المحقق العراقي[2] الى أنَّ وجوب التعلم إرشادي محض الى ما يدركه العقل من لزوم الفحص وعدم اجراء البراءة قبله، وادعى ظهور سياق أخبار التعلم في كونه للإرشاد الى حكم العقل بلزوم الفحص في الشبهات الحكمية، إما بملاك عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص، وإما بملاك العلم الاجمالي، وإما بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل، بل ذكر أنه لا مجال لحمل هذه الأوامر على الوجوب الطريقي، بل لا يصح ذلك في المقام، وذلك لأنَّه يرى أنَّ الأمر الطريقي هو ما يكون في فرض الموافقة عين الارادة الواقعية المتعلقة بالواقع، ويكون موضوعه هو عين موضوع هذه الإرادة، وإمتثاله هو عين امتثال الأمر الواقعي والارادة والواقعية، فامتثال وجوب الاحتياط - وهو طريقي بلا إشكال - هو عين امتثال الوجوب الواقعي في ظرف الاصابة، فإذا فرضنا أنَّ الأمر المتعلق بالواقع هو وجوب صلاة الظهر فلو احتاط المكلف وأتى بصلاة الظهر فموضوعهما واحد وهو الواقع، هذا هو المناط في الوجوب الطريقي، وهذا غير متحقق في وجوب التعلم لوضوح أنَّ وجوب التعلم غير الأمر بالواقع، فلا بد أن يكون وجوبه إرشادي.


logo