46/11/28
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
الكلام في تنقيح الرأي الثالث وبيان مستنده:
ذكر المحقق النائيني بأنَّ العقاب لا يمكن أن يترتب على مخالفة الواقع لأنه مجهول وغير مبين ولا واصل فالعقاب عليه يكون قبيحاً، كما أنه لا يمكن أن يكون على ترك التعلم لأنَّ وجوبه طريقي، فالعقاب يكون على المجموع المركب منهما، أي على ترك التعلم المؤدي الى مخالفة الواقع.
ثم ذكر أنَّ مناط وجوب التعلم غير مناط وجوب حفظ القدرة في المقدمات المفوتة من قبيل الغسل الليلي للمستحاضة، أو الخروج مع القافلة للحج، فمن الواضح توقف الواجب على المقدمة الوجودية التي يفوت الواجب بتفويتها، ويتحقق عصيان الواجب بمجرد تركها ولو قبل زمان الواجب، فيكون عاصياً بمجرد ترك الخروج مع القافلة ويستحق العقاب على مخالفة وجوب الحج وإن لم يحل وقت الواجب، وأما وجوب التعلم فليس كذلك لأنَّ فعل الواجبات وترك المحرمات لا يتوقف على التعلم، فليس للعلم دخل في القدرة حتى يكون مثل المقدمات المفوتة، وعليه لا يكون لوجوب التعلم شأنية الاستقلالية والنفسية وإنما هو وجوب طريقي صرف، بخلاف المقدمات المفوتة فإنَّ الخطاب المتعلق بها ليس طريقياً وإنما هو دخيل في القدرة على الواجب ويكون من مقدماته الوجودية.
وفيه: أولاً: إنَّ نفي النفسية عن الوجوب التعلم لا يستلزم ثبوت الطريقية فإنَّ هناك احتمالات أخرى مذكورة في كلماتهم، فمن جملتها أن يكون وجوباً تهيُّؤياً أي حتى يتهيأ المكلف بالتعلم لإمتثال الأحكام.
ومنها: أن يكون وجوباً شرطياً، بمعنى كون التعلم والفحص شرطاً لحجية أدلة الأحكام والأصول النافية.
ومنها: كونه إرشادياً محضاً الى ما يحكم به العقل من لزوم الفحص للفرار من العقاب المحتمل اما باعتبار العلم الإجمالي المنجِّز أو باعتبار الشبهة قبل الفحص.
ومنها: أن يكون وجوبه وجوباً غيرياً بدعوى أنَّ التعلم مقدمة للعمل بأدلة الأحكام.
وعليه لا يمكن إثبات الطريقية لوجوب التعلم بمجرد نفي احتمال الوجوب النفسي ما لم يتم نفي هذا الاحتمالات.
وثانياً: إنَّ ما ذكره من منع كون الفحص والتعلم من المقدمات الوجودية المفوتة التي تتوقف عليها القدرة على الواجب في وقته ليس على اطلاقه فقد يكون ترك التعلم والفحص موجباً للغفلة عن صورة العمل حين الابتلاء به، أو الغفلة عن حكمه، وحينئذٍ لا يكون المكلف قادراً على فعل الواجب حتى بالاحتياط، وعليه يكون الفحص والتعلم في مثل ذلك من المقدمات الوجودية المفوتة كما في الغسل قبل الفجر بالنسبة الى الصوم ويكون واجباً غيرياً بملاك المفوتية.
وثالثاً: إنَّ ما ذكره من عدم كون الواقع مبيّناً ولا واصلاً الى المكلف فيقبح العقاب عليه وأنَّ وجوب التعلم لا يجعله مبيّناً، كأنه يرجع الى التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لنفي استحقاق العقاب على الواقع المجهول، وهذا يعني جريان البراءة العقلية قبل الفحص في الشبهات الحكمية، وتقدم أنه لا يلتزم بذلك، بل يرى تمامية البيان على الواقع قبل الفحص إما للعلم الإجمالي وإما لحكم العقل بمنجزية احتمال التكليف قبل الفحص، فكيف تجري البراءة العقلية بلحاظ التكاليف الواقعية قبل الفحص!
ورابعاً: إنَّ الواقع وإن كان لا يخرج عن كونه مجهولاً بإيجاب الفحص لكنه يكون منجَّزاً بإيجاب الفحص من قبل الشارع، لأن وجوب التعلم طريقي يُراد به تنجيز الواقع وإبراز الاهتمام به على تقدير وجوده، ومن الواضح أنَّ العقاب على مخالفة الواقع المنجَّز ليس قبيحاً، بل يكون عقاباً في محاله وإن كان مجهولاً.
وخامساً: إنَّ ما ذكره من أنَّ العقاب يكون على المجموع المركب من ترك التعلم ومخالفة الواقع قد يُستشكل فيه بأنه إذا استحال العقاب على ترك الواقع لجهالته وعلى ترك التعلم لطريقيّته فكيف ينتج ضم أحدهما الى الآخر موضوعاً يمكن العقاب عليه!
أقول: يمكن توجيه ما ذكره بأنَّ استحالة العقاب على مخالفة الواقع تتوقف على عدم وصوله وعلى عدم تنجِّزه، وأما إذا فرضنا وصول الواقع الى المكلف أو تنجَّزه عليه بمنجِّزٍ فلا يحكم العقل باستحالة العقاب على مخالفته، وعليه فدعوى استحالة العقاب على الواقع تستبطن افتراض عدم وصول الواقع وعدم وجود ما ينجِّزه، وحينئذٍ لا يكون العقاب عليه وإنما يكون على ترك التعلم المأمور به شرعاً لكن لا مطلقاً وإنما إذا أدى الى مخالفة الواقع، فيكون حاله حال وجوب الاحتياط في الدماء والفروج من أنه لا يمكن القول بأنَّ مخالفته توجب استحقاق العقاب مطلقاً وإنما يكون العقاب عند الاصابة، وهو معنى أنَّ العقاب يكون على ترك التعلم المؤدي الى مخالفة الواقع، لكنك خبير بأنَّ هذا التوجيه إنما يتم إذا لم نقل بأنَّ وجوب التعلم بنفسه يكون منجِّزاً للواقع فيكون العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم.