« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/11/22

بسم الله الرحمن الرحيم

/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/

 

مقدار الفحص الواجب

الكلام في مقدار الفحص الواجب فهل يجب الفحص حتى يحصل العلم بعدم وجود ما يدل على الحكم الشرعي المشكوك، أو يكفي حصول الاطمئنان بعدم وجوده، أو يكفي مطلق الظن بذلك؟

قالوا إنَّ الصحيح هو الثاني لأنَّ اشتراط حصول العلم - مضافاً الى عدم الدليل عليه - يلزم منه العسر والحرج، كما أنَّ الثالث لا يمكن المصير إليه لأنَّ الظن ليس بحجة ما لم يقم دليل خاص على اعتباره، فيتعين الاحتمال الثاني وهو كفاية الاطمئنان فيجب الفحص حتى يحصل الاطمئنان بعدم وجود ما يدل على الحكم الشرعي، والاطمئنان حجة ببناء العقلاء، ولم يردع الشارع عنه فنستكشف من ذلك الامضاء الذي هو الدليل حقيقة، هذا بلحاظ الكبرى.

وأما بلحاظ الصغرى فقالوا إنَّ حصول الاطمئنان أمر ممكن للفقيه الذي مارس استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وذلك باعتبار أنَّ علماءنا المتقدمين بذلوا جهداً في جمع الأخبار وترتيبها وتبويبها وإزالة الاشكالات السندية والدلالية عنها، حتى وصلت إلينا صافية في الجملة، فبمجرد رجوع المستنبط الى أخبار الباب والأبواب المناسبة له وعدم العثور على ما يدل على الحكم الشرعي يحصل له الاطمئنان عادة بعدم وجود الدليل على الحكم الشرعي.

الكلام يقع تارة في مقدار الفحص الواجب من ناحية أصل النقل، وأخرى في مقدار الفحص الواجب بلحاظ الدلالة والظهور.

أما بالنسبة الى الأول فالكلام يقع كبروياً في نهاية الفحص الواجب وهل هي حصول العلم بعدم وجود دليل على الحكم الشرعي، أو الاطمئنان بذلك، أو يكفي مجرد الظن بعدم الدليل على الحكم الشرعي.

وصغروياً في تحقق تلك الغاية، فلو فرض أنَّ الغاية هي الاطمئنان فهل تتحقق بمجرد الرجوع الى الباب المناسب لتلك المسألة والأبواب المناسبة، أو الرجوع الى ما زاد على ذلك ما دام الفقيه يحتمل الحصول على دليل على الحكم الشرعي؟

وبعبارة أخرى هل يكفي أن يرجع الفقيه الى الكتب الأربعة أو لا، فإذا احتمل وجود رواية في كتب أخرى هل يجب عليه الرجوع إليها أو لا؟

أما البحث الكبروي فالظاهر أنَّ الغاية هي قيام الحجة على عدم وجود دليل على الحكم الشرعي، فيجب عليه الفحص حتى تقوم عنده الحجة على ذلك، وعندئذٍ يجوز له إجراء البراءة، وذلك لأنَّ المفروض هو عدم جواز إجراء البراءة مع وجود الدليل على الحكم الشرعي، فلا بد من احراز عدمه حتى تجري البراءة، ومن الواضح أنه يكفي في احراز عدم الدليل أن تقوم الحجة المعتبرة على عدم وجوده، ولا إشكال في انطباق الحجة على العلم فإذا حصل العلم بعدم وجود دليل على الحكم الشرعي فيسوغ للفقيه حينئذٍ إجراء البراءة، كما أنه لا ينبغي الاشكال في عدم تتحقق الحجة إذا حصل له الظن بعدم الدليل على الحكم الشرعي، مع افتراض عدم الدليل الخاص على حجية ذلك الظن، فيبقى الاطمئنان فهل هو حجة نُحرز به عدم وجود دليل على الحكم الشرعي أو لا؟

استدلوا على حجية الاطمئنان باستقرار سيرة العقلاء على العمل بالاطمئنان في أمورهم الخاصة التكوينية والتشريعية ولم يردع الشارع عنها فيكشف ذلك عن الامضاء لها.

نعم قد يُستشكل على الاستدلال على حجية الاطمئنان ببناء العقلاء بأنَّ الشارع ردع عن هذه السيرة، ويكفي في ذلك الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن والعمل بغير العلم فلا يثبت الامضاء.

وأجيب عنه:

أولاً: بأنَّ الاطمئنان علم عرفاً فلا تشمله الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم، فلا تصلح للردع عن السيرة القائمة على العمل بالاطمئنان.

ويلاحظ عليه: بأنَّ الظاهر أنَّ العرف لا يرى الاطمئنان علماً، وإن كان لا يعتني باحتمال الخلاف، فإذا علم بنجاسة إناء معين في ضمن مئة إناء فاحتمال النجاسة في هذا الاناء ضعيف ومقداره 1% لكن الانسان العرفي لا يرى نفسه عالماً بطهارته، بل يبقى يحتمل عدم طهارته وإن كان الاحتمال ضعيفاً.

وثانياً: بأنَّ الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم لا تصلح للردع عن العمل بالاطمئنان وذلك باعتبار أنَّ الشارع لم يجعل طريقاً آخر بديلاً عن الاطمئنان حتى تكون الآيات والروايات صالحة للردع عنه، فكيف يردع الشارع عن العمل بالاطمئنان ولا يجعل لهم بديلاً عنه! مع الأخذ بنظر الاعتبار انسداد باب العلم، وأنَّ ما جعله طريقاً في بعض الموارد كخبر الثقة لا يجري في المقام لأنّ الخبر إنما يقوم على الحكم الشرعي لا على عدم وجود دليل على الحكم الشرعي.

ويلاحظ عليه: بأنَّ نفس انعقاد السيرة على العمل بالاطمئنان من زمان الأئمة عليهم السلام الى هذا الزمان دليل على أنَّ هذه الآيات والروايات لا تصلح للردع عن العمل بالاطمئنان، ولو كانت كذلك لما انعقدت السيرة من قبل المتشرعة بما هم عقلاء وهي بمرأى ومسمع منهم، وعلى الأقل لارتدع بعضهم، فنفس انعقاد السيرة يكون دليلاً واضحاً على عدم صلاحية هذه الأدلة للردع عن العمل بالاطمئنان.

أما البحث الصغروي فقد يقال يكفي في حصول الغاية وبالتالي جواز اجراء البراءة الرجوع الى أخبار الباب وما يناسبها من الأبواب الأخرى ولا يتوقف تحققها على أزيد من ذلك.

أقول: لعل هذا الكلام من باب قياس المقام على ما يفعله العقلاء في مولوياتهم العرفية وأحكامهم التشريعية الوضعية، إذ لا إشكال في أنهم يفحصون عن أحكام المولى في الموضع الذي جرت العادة على وضعها فيه كالصحيفة الرسمية ونحوها، فقالوا يكفي في رجوع الفقيه الى مظان وجود الأخبار كالكتب الأربعة ولا يجب الفحص أكثر من ذلك، ولكن يبدو أنه قياس مع الفارق وذلك باعتبار أنَّ المفروض في القوانين الوضعية هو أنَّ نفس المشرع قرر وضع قوانينه في موضع معين، فلا إشكال حينئذٍ في عدم الفحص الزائد، وأما في محل الكلام فإنَّ الشارع المقدس لم يقرر وضع ما يدل على أحكامه الشرعية في الكتب الأربعة وإنما ذلك من جمع العلماء، فلا يمكن قياس أحدهما على الآخر.

logo