46/11/21
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
قلنا أنَّه لا يوجد مانع من إجراء البراءة قبل الفحص في الشبهة الموضوعية بعد احراز تحقق موضوعها، وهو عدم البيان على الحكم الفعلي المنجَّز، نعم تُستثنى من ذلك الحالتان اللتان ذكرهما المحقق النائيني، ولا يوجد في كلامه بعد مراجعة فوائد الأصول ما يوجب اختصاصه بالبراءة الشرعية، بل كلامه عام يشمل البراءة الشرعية والعقلية، فكأنه يستثني الحالتين من كلتا البراءتين وإن لم ينص على ذلك.
نعم في بعض عبارات السيد الخوئي هناك ما يُشير الى الاختصاص بالبراءة الشرعية، وعلى كل حال لا مانع من الكلام عن استثناء الحالتين بلحاظ كلتا البراءتين، فنقول:
نحن قلنا بجريان البراءة العقلية والشرعية في الشبهة الموضوعية، فهل هناك ما يمنع من جريان البراءة العقلية في هاتين الحالتين أو لا، وقد تقدم أنَّ الكلام بلحاظ البراءة العقلية ينبغي أن يقع في أنَّ ما يدركه العقل هل يشمل الجهل بهذا المقدار أو لا يشمله، وأنَّ البراءة العقلية مرجعها الى معذورية الجاهل فهل يدرك العقل ذلك حتى في مثل هذا الجاهل أو لا؟ وهذا بقطع النظر عن صدق الجاهل عليه، وإنما الكلام فيما يحكم العقل به من المعذورية الجاهل هل هو المعذورية مطلقاً أو لا؟
الذي استقربناه هو عدم الشمول لمثل هذا الجاهل، فليس معذوراً بنظر العقل واستعنَّا على ذلك بالارتكاز العقلائي المنعقد بين جميع العقلاء على اختلافهم على أنَّ مثل هذا الجاهل ليس معذوراً، بل يرونه مستحقاً للوم والذم على تركه الفحص بهذا المقدار، ومرجع ذلك الى أنَّ موضوع البراءة العقلية ليس هو مطلق الجاهل، بل ما عدا مثل هذا الجاهل، وهذا يعني أنَّ البراءة العقلية لا تجري في هاتين الحالتين ولا بد من الفحص فيهما، نعم في بقية الشبهات الموضوعية لا مانع من اجراء البراءة قبل الفحص.
هذا كله في الشبهة الموضوعية بلحاظ البراءة العقلية، وأما بلحاظ البراءة الشرعية فهل تجري قبل الفحص أو لا؟
استدل على جريان البراءة الشرعية في المقام بإطلاق أدلتها إذ لا ليس فيها ما يُشير الى اعتبار الفحص في جريانها، ولكن تقدم في بحث الشبهة الحكمية أنَّ هناك وجوهاً تمنع من اطلاق أدلة البراءة الشرعية، وقلنا أنَّ بعضها يرجع الى قصور المتقضي وبعضها يرجع الى وجود المانع، فلا بد من ملاحظة هذه الوجوه لنرى أنَّ ما تم منها في الشبهة الحكمية هل يجري في الشبهة الموضوعية أو لا؟
الذي يبدو أنها لا تجري في محل الكلام وذلك باعتبار أنَّ ما تم من هذه الوجوه في مقام بيان قصور المقتضي في أدلة البراءة هو عبارة عن الوجه الثالث المبني على أنَّ احتمال القرينة المتصلة يوجب الاجمال ويمنع من التمسك بالظهور كما هو الحال في احتمال قرينية الموجود، وحاصله أنه يحتمل وجود قرينة لبية حالية صارفة لإطلاق أدلة البراءة الشرعية عن ما قبل الفحص، وهي أنَّ المعلوم من حال الأئمة عليهم السلام هو شدة اهتمامهم بنشر الأحكام الشرعية وتبليغها وحث الناس على تعلمها، وهذا إن لم يوجب القطع بأنه قرينة لبية صارفة فلا أقل من احتمال ذلك، فلا يكون لأدلة البراءة الشرعية ظهور في الاطلاق والشمول لما قبل الفحص وما بعده، بل توجب اجمال الدليل، والمجمل يُقتصر فيه على القدر المتيقن وهو ما بعد الفحص، فلا اطلاق في هذه الأدلة وهو معنى قصور المقتضي، لكن ذلك تم ذلك في الشبهة الحكمية فلا يتم في الشبهة الموضوعية، إذ لا قرينة على اهتمام الشارع بالموضوعات، وإنما اهتمامه بالأحكام ونشرها، وعليه لا يمكن الاستدلال بهذا الوجه لإثبات قصور المقتضي في أدلة البراءة.
وأما الوجوه التي ترجع الى وجود المانع من تمامية الاطلاق فالتام منها هو الوجه الثاني، وهو الأخبار الدالة على وجوب التعلم التي تتنافى مع اجراء البراءة قبل الفحص، ولكن هذا الوجه لا يتم في الشبهة الموضوعية أيضاً لوضوح اختصاص اخبار التعلم بالشبهات الحكمية.
ومن هنا يتبين أنَّ الصحيح هو تمامية الاطلاق في أدلة البراءة الشرعية للشبهات الموضوعية ولا يوجد ما يمنع منه كما قلنا ذلك في البراءة العقلية.
نعم يرد هنا ما تقدم من الاستثناء في بعض الموارد التي يُلتزم فيها بوجوب الفحص، والكلام هو نفس ما تقدم مع لحاظ أنَّ البراءة في المقام شرعية وليست عقلية، فيُلتزم في الحالة الأولى بالملازمة العرفية بين تشريع الحكم الذي يتوقف امتثاله غالباً على الفحص عن موضوعه وإلا لزم لغوية هذا التشريع، نعم إذا كان امتثاله يتوقف على الفحص أحياناً لا غالباً فلا تلزم اللغوية.
وأما الحالة الثانية فنلتزم بانصراف أدلة البراءة عنها، بل عدم شمول أدلة البراءة الشرعية في المقام أوضح من عدم شمول البراءة العقلية، لأنها أدلة شرعية لفظية والارتكاز المتقدم يكون قرينة لُبية على اختصاصها بغير هذا الجاهل.
وبعد الفراغ عن أصل وجوب الفحص في الشبهات الحكمية يقع الكلام في أمور:
الأمر الأول في المقدار الواجب من الفحص.