46/11/14
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
كان الكلام في الاعتراض الثالث على الوجه الثاني الذي استُدل به على وجوب الفحص وعدم جريان البراءة في الشبهات البدوية قبل الفحص، وحاصل هذا الاعتراض هو أنَّ الأدلة المُستدل بها على وجوب التعلم مفادها الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك الفحص، وهذا المضمون يستلزم أن يكون الحكم المشكوك منجَّزاً في مرتبة سابقة على هذه الأخبار وإلا فلا معنى لها، وعليه فهذه الأخبار لا تتكفل تنجيز الواقع قبل الفحص، بل تختص بالموارد التي يكون فيها منجِّز سابق كما في موارد العلم الإجمالي.
ويلاحظ عليه:
أولا: ليس كل النصوص المُستدل بها في الوجه الثاني لسانها هو لسان الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع فمن ذلك (طلب العلم فريضة)[1] فإنَّ لسانه هو إنشاء وجوب طلب العلم وليس الاخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع، ومثله آية السؤال ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، فلا مانع من الاستدلال بهذا النحو من الأدلة على وجوب التعلم ولا يرد فيها ما ذُكر في الاعتراض، ولا يمنع من الاستدلال بها على وجوب الفحص والتعلم كون مفاد بعض الروايات هو المفروغية عن التنجيز في مرحلة سابقة، ولا منافاة بينهما.
وثانياً: الذي يُفهم من هذه الأخبار هو أنَّ وجوب الفحص ثابت فيها بنكتة عدم معذورية الجاهل، ومن الواضح أنَّ هذا المعنى لا يتلاءم مع حملها على الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فإنه يعني أنَّ وجوب الفحص ثابت بنكتة العلم الإجمالي.
فالظاهر - الى هنا - إنَّ هذا الوجه تام وأنَّ جميع الاعتراضات مدفوعة.
الوجه الثالث: ما ورد في تقريرات السيد الخوئي[2] ، وحاصله:
يمكن إثبات وجوب الفحص وعدم شمول أدلة البراءة لما قبل الفحص بالتمسك بأخبار التوقف مثل (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة..)[3] ونحوها فإنَّ النسبة بينها وبين أخبار البراءة هي نسبة التباين لأنها تدل على وجوب التوقف ومقتضى اطلاقها هو وجوب التوقف عند الشبهة مطلقاً، أي قبل الفحص وبعده، وأخبار البراءة مطلقة أيضاً وتشمل ما قبل الفحص وما بعده، إلا أنَّ مورد بعض أخبار التوقف هو الشبهة قبل الفحص من قبيل قوله عليه السلام: (..فأَرجهِ حتى تَلقى إمامَكَ..)[4] ، ونسبته الى أخبار البراءة هي نسبة العموم المطلق، فيكون أخص مطلقاً من أخبار البراءة فيُقدم عليها بالأخصية، ولازمه اختصاص أخبار البراءة بما بعد الفحص، وبعد هذا التخصيص تكون النسبة بين أخبار البراءة وبين بقية أخبار التوقف المطلقة هي أيضاً نسبة العموم المطلق، فتختص أخبار التوقف بما قبل الفحص وأخبار البراءة بما بعد الفحص فيثبت المطلوب.
وفيه:
أولاً: إنَّ دعوى اختصاص أخبار التوقف بما قبل الفحص هل هو باعتبار أنَّ ما قبل الفحص هو مورد لهذه الأخبار أو لأنَّ الأخبار فيها ما يدل على أنَّ موضوع وجوب التوقف هو الشبهة قبل الفحص؟
فإن كان الاختصاص ناشئاً من الموردية فقط فالظاهر أنَّ هذا لا يكون منشأً للتقديم ولا يكون قرينة على التصرف في الدليل الآخر، لأنه مورد السؤال والقدر المتيقن من الدليل وهذا لا يوجب الاختصاص والتصرف في الدليل الآخر، فلا يمكن القول بأنَّ أخبار التوقف تُقدم على أدلة البراءة وتوجب تخصيصها وحملها على الشبهة بعد الفحص، وهذا نظير ما يقال في (ثمن العذرة سحت) مع (لا بأس ببيع العذرة) فإن المتيقن من الأول هو عذرة الانسان ولكنه لا يوجب التصرف في الدليل الآخر بالتقييد، وكذا العكس فإن المتيقن من الدليل الآخر هو عذرة غير الانسان ولكنه لا يوجب التصرف في الدليل الأول ولا يكون قرينة على ذلك.
وإن كان الاختصاص ناشئاً من الدلالة على نفي وجوب التوقف في غير مورده بأن كان له مفهوم يدل على ذلك فهذا الدليل لا يكون منافياً لأخبار التوقف المطلقة فلا يكون مخصصاً لها، نعم يكون منافياً لأخبار البراءة المطلقة لأنه بإثباته التوقف قبل الفحص يكون منافياً لإطلاق أدلة البراءة، فتختص أدلة البراءة بما بعد الفحص، وهذا يكفي لإثبات المطلوب بلا حاجة الى كبرى انقلاب النسبة.
أو قل هذا الخبر يدل على وجوب التوقف وهو ينافي أدلة البراءة المطلقة فيعارضها، والنسبة بينهما هي العموم المطلق فيوجب تخصيصها فتختص أدلة البراءة بما بعد الفحص، وهو المطلوب.
وثانياً: إنَّ أخبار التوقف ظاهرة في المفروغية عن تنجُّز التكليف في مرتبة سابقة عليها بقرنية تعليل الأمر بالتوقف في الشبهة بكونه خيراً من الاقتحام في الهلكة، وهذا يعني أنَّ هذه الأخبار تتحدث عن شبهة يكون اقتحامها فيه هلكة وعقاب وهي في مقام التحذير منه وهذا لا يصدق إلا مع كون الشبهة منجَّزة في مرحلة سابقة بعلم إجمالي أو نحوه فلا تجري في محل الكلام.