« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/11/05

بسم الله الرحمن الرحيم

/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/

 

عرض وتلخيص:

كان الكلام في اطلاق أدلة البراءة الشرعية لصورة ما قبل الفحص، حيث ادعي اختصاص أدلة البراءة بما بعد الفحص، وهذه الدعوى تبيَّن تارة بلسان قصور المقتضي وأخرى بلسان وجود المانع، وتم الكلام في الأول، وتبيَّن أنه لا قصور في المقتضي وأنَّ في أدلة البراءة إطلاق يشمل ما قبل الفحص.

وأما دعوى وجود المانع ففيها وجوه، تقدم الوجه الأول وهو دعوى وجود علم إجمالي يمنع من جريان البراءة قبل الفحص، وهذا العلم هو عبارة عن العلم الاجمالي بوجود أحكام واقعية الزامية في ضمن مجموع الشبهات، وهو منجِّز لجميع أطرافه، سواءً كانت موجودة في الكتب أم لا، وسواءً كانت في الكتب المعتبرة أم في غيرها، ومقتضى ذلك هو عدم جواز اجراء البراءة في كل شبهة لأنها معارضة بإجراء البراءة في الشبهات الأخرى، ولا يمكن إجراؤها في الجميع لمنافاته للعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية فيها، كما لا يمكن اجراؤها في بعضها دون بعض لأنه ترجيح بلا مرجح، فلا بد من الفحص.

واعترض صاحب الكفاية عليه بأنَّ البيان المذكور يرجع الى الاستدلال على وجوب الفحص بالعلم الإجمالي وهو مُسلَّم مادام العلم الاجمالي موجوداً وأما مع انحلاله فلا دليل على وجوب الفحص، والمدعى انحلاله بفحص الفقيه في الأدلة فإذا عثر من على مقدار من الإحكام الالزامية في الأمارات المعتبرة صار عالماً بها بالتفصيل، فإذا كان هذا المقدار لا يقل عن المعلوم بالإجمال انحلَّ العلم الإجمالي قهراً الى علم تفصيلي بهذا المقدار وشك بدوي في الباقي، ولا مانع حينئذٍ من جريان البراءة فيها، ولكن هذا ما لا يلتزم به أحد.

وأشكل عليه المحقق النائيني بأنَّ العلم الإجمالي الكبير منحل ولكن لا الى علم تفصيلي وشك بدوي وإنما الى علم إجمالي أصغر منه وهو العلم بوجود أحكام واقعية إلزامية في ضمن الأمارات الموجودة في الكتب المعتبرة، وهذا المقدار لا يقل عن المعلوم في العلم الإجمالي الكبير وإن لم تكن هذه الأمارات مشخصة لديه، وهذا العلم الإجمالي الصغير يمنع من إجراء البراءة في أطرافه وهي عبارة عن جميع الشبهات، لأنَّ كل شبهة منها يُحتمل قيام الأمارة على ثبوت حكم إلزامي فيها، إذن العلم الاجمالي الكبير لا ينحل الى علم تفصيلي وشك بدوي حتى يلزم جريان البراءة بعد الانحلال حتى قبل الفحص.

وأجيب عن هذا الاشكال بأنَّ العلم الإجمالي الصغير منحل أيضاً كما تقدم في العلم الإجمالي الكبير، أي إذا فحص الفقيه وعثر على أمارات تدل على أحكام إلزامية ليست أقل من المعلوم بالإجمال انحل العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بهذا المقدار وشك بدوي في الباقي، وهذا ما لا يلتزم به أحد كما ذكر صاحب الكفاية.

وفي مقام الدفاع عن المحقق النائيني ودفع هذا الاشكال ذكرنا بأنَّ الانحلال المذكور إنما يتحقق إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني مردداً بين الأقل والأكثر من أول الأمر، وهذا ما يتحقق إذا كان المعلوم بالإجمال مرسلاً، أي غير مُعَلَّم بعلامة خاصة كعشرة شياه موطوءة في ضمن هذا القطيع، وهنا يثبت الانحلال لأنَّ هذا العلم الاجمالي لا يُنجِّز إلا الأقل، وتقدم أنَّ هذا العلم ليس علماً إجمالياً حقيقياً وإنما هو علم تفصيلي بالأقل وشك في الزائد فلا يُنجِّز عليه الا الأقل، فإذا علم بالفحص بالشياه الموطوءة انحل هذا العلم.

وأما إذا كان المعلوم في هذا العلم الإجمالي هو عنوان واقعي بما له من الأفراد الواقعية كما إذا تميزت الموطوءة بعنوان كالشياه البيض فهذا العنوان ينجِّز الحرمة في الشياه البيض، ولا شك هنا وإنما الشك بين الأقل والأكثر يكون في مرحلة لاحقة، أي في عدد الموضوع المعلوم يقيناً، ويدور أمره بين الأقل والأكثر، وهذا النحو يمنع من انحلال العلم الإجمالي لأنَّ ما تنجَّز على المكلف من البداية هو العنوان الواقعي بما له من الأفراد الواقعية التي يحتمل أن تكون هي الأكثر ويجب عليه الاحتياط بلحاظها جميعاً، فإذا عثر بالفحص على عشرة منها فلا ينحل العلم الإجمالي ما دام يُحتمل أنَّ الباقي من أطراف العلم الاجمالي، ومعه لا بد من الاحتياط.

وعلى هذا الأساس يُفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية، ففي الأولى لا علم إلا بحرمة الأقل وما زاد عليه يكون مشكوكاً من أول الأمر، لأنَّ الموجود من البداية قضية متيقنة وقضية مشكوكة فلا يتنجَّز إلا الأقل، هنا يقال إنَّ العلم بالمقدار المعلوم بالعلم الإجمالي تفصيلاً يوجب انحلال العلم الاجمالي فلا موجب للفحص بعد انحلاله، وأما في الحالة الثانية فلا يكون العلم التفصيلي بالأقل - الذي عثر عليه بعد الفحص - موجباً للانحلال لأنَّ المفروض أنه نجَّز العنوان الواقعي على واقعه فلا بد من الاجتناب عن جميع أفراده، وحيث أنه يحتمل وجوده فيها – أي فيما زاد على العشرة التي عثر عليها بالتفصيل - فلا يجوز إجراء البراءة فيها.

وفي المقام يكون الأمر من قبيل الحالة الثانية التي لا ينحل فيها العلم الاجمالي، لأنَّ المعلوم بالإجمال هو الأحكام الالزامية الواقعية ضمن الأمارات الموجودة في الكتب المعتبرة المعنونة بهذا العنوان فيكون منجَّزاً بهذا العنوان، فإذا فحص الفقيه وعثر على المقدار المعلوم بالإجمال من الإحكام الالزامية لم يكن له الرجوع الى البراءة في الزائد على المعلوم بالتفصيل ما دام يحتمل وجوده في ضمن الأمارات الواردة في الكتب المعتبرة، فيجب عليه الفحص في الزائد وبذلك يتم إشكال المحقق النائيني على اعتراض الكفاية.

وهناك عدة اعتراضات على كلام المحقق النائيني:

الاعتراض الأول: وهو ما في مصباح الأصول[1] ، وهو أنَّ المعلوم بالإجمال إذا كان له علامة فهو إنما يمنع من انحلال العلم الإجمالي إذا لم يكن بنفسه مردداً بين الأقل والأكثر.


[1] مصباح الأصول ج2 ص569، المجلد 47 من الموسوعة.
logo