« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/10/24

بسم الله الرحمن الرحيم

/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/

 

كان الكلام في أنَّ أدلة البراءة الشرعية ليس فيها اطلاق يشمل حالة ما قبل الفحص فتختص البراءة بما بعد الفحص، فنمنع من جريان البراءة قبل الفحص على أساس قصور المقتضي حتى إذا أنكرنا البراءة العقلية، وذلك لما تقدم من الارتكاز العقلائي على معذورية الجاهل المشتمل على جانبين إيجابي وهو معذورية الجاهل بعد الفحص وسلبي وهو عدم معذوريته قبل الفحص، وهذا الأخير هو الذي يمنع من اطلاق أدلة البراءة لما قبل الفحص لأنه أشبه بالمخصص المتصل المانع من الاطلاق، فتختص أدلة البراءة بما بعد الفحص وهو المطلوب.

وتقدمت المناقشة فيه بتسليم وجود الارتكاز على المعذورية بعد الفحص لكنه لا يلازم وجود ارتكاز على عدم المعذورية قبل الفحص، نعم وجود ارتكاز على المعذورية بعد الفحص يعني أنه قبل الفحص لا يوجد ارتكاز على المعذورية، والذي يمنع من الاطلاق هو وجود ارتكاز على عدم المعذورية، وهذه المناقشة مرجعها الى إنكار الجانب السلبي في هذا الارتكاز.

وقد يقال: إنَّ العقل يحكم بعدم معذورية الجاهل قبل الفحص سواء قلنا بالبراءة العقلية أو أنكرناها، أما على القول بالبراءة العقلية - قبح العقاب بلا بيان - فهي متوقفة على الفحص فالحكم بالمعذورية يكون بعد الفحص، وأما قبل الفحص فالعقل يحكم بعدم المعذورية، وأما على إنكار البراءة العقلية والقول بمسلك حق الطاعة فحكم العقل بعدم المعذورية واضح لحكمه بالاحتياط ومنجزية الاحتمال، ووجود الاحتمال قبل الفحص أوضح منه بعد الفحص، ومع وجود هذا الحكم العقلي يكون هو المانع من اطلاق أدلة البراءة.

وفيه: إنَّ الحكم العقلي المذكور لا يصلح مانعاً من انعقاد الاطلاق لأنه حكم تعليقي معلَّق على عدم ورود الترخيص من المولى بارتكاب الشبهة قبل الفحص فإذا ورد الترخيص ارتفع الحكم العقلي بارتفاع موضوعه، ولا يعقل أن يكون مانعاً من الترخيص، ومن الواضح أنَّ اطلاق دليل البراءة يعتبر ترخيصاً في ارتكاب الشبهة قبل الفحص وبعده فيكون رافعاً لموضوع الحكم العقلي.

بذلك يتضح عدم تمامية البيان الأول.

الوجه الثاني: هو ما ذكره السيد الشهيد قده ، وهو مبني على لحاظ مجموع ما تم من أدلة البراءة بنظره، حيث ينتج عدم الاطلاق في أدلة البراءة، وتفصيل ذلك:

ما تم من الأدلة دلالة وسنداً هو من الكتاب آيتين:﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا﴾[1] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾[2] ، ومن السنة حديث الرفع ، والآية الأولى تشتمل على مستثنى منه وهو ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا﴾ ومستثنى وهو ﴿إِلا مَا آتَاهَا﴾ وبلحاظ عقد المستثنى منه تدل الآية على البراءة، وبلحاظ عقد المستثنى تدل على عدمها، أي تدل على التنجيز عند الايتاء، وكذا الكلام في الآية الثانية فهي تدل على التنجيز عند (التبيين)، والايتاء والتبيين في الآيتين لا يفهم منه عرفاً الوصول الفعلي وإنما كون الحكم في معرض الوصول، فمفادهما إذا كان الحكم في معرض الوصول مطلقاً – أي سواءً وصل بالفعل أو لا - فلا تثبت البراءة.

وأما حديث الرفع فموضوعه عدم الوصول مطلقاً (ما لا تعلمون)، فالبراءة مجعولة عند عدم الوصول مطلقاً أي سواء كان الحكم في معرض الوصول أو لا، فهناك اطلاق في الآيتين بلحاظ الوصول الفعلي وعدمه، وفي الحديث بلحاظ كون الحكم في معرض الوصول أو لا، ومنه هنا يظهر أنَّ النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فجهة الاختصاص في الآيتين هي كون الحكم في معرض الوصول وجهة الاطلاق بلحاظ الوصول وعدمه، وكذا الحديث فيه جهة اختصاص وهي عدم الوصول وجهة اطلاق وهي بلحاظ كون الحكم في معرض الوصول أو عدم كونه كذلك، فيتعارضان في مادة الاجتماع أي فرض ما قبل الفحص وعدم وصول التكليف مع كونه في معرض الوصول، فالآيتان يثبتان عدم البراءة لكونه في معرض الوصول والحديث يثبت البراءة لعدم الوصول، وحينئذٍ يقال لا بد من تقديم الكتاب والمنع من البراءة قبل الفحص إذا كان في معرض الوصول عملاً بالآيتين لأنه إذا وقع التعارض بين آية وخبر ولو كان معتبراً فلا بد من تقديم الآية، ولازمه اختصاص حديث الرفع بما بعد الفحص.

ولوحظ عليه: بأنَّ الآيتين ليستا في مقام البيان من جهة عقد المستثنى وإنما هما في مقام البيان من جهة عقد المستثنى منه، فهما مسوقتان لبيان البراءة في عقد المستثنى منه فلا يصح التمسك بإطلاقهما من جهة عقد المستثنى، وعليه فلا تتحقق المعارضة بين الآيتين وبين حديث الرفع لأنها تبتني على وجود الاطلاق في عقد المستثنى.

الملاحظة الثانية: وقد يُشكك في وجود تعارض بين الآيتين وبين الحديث أساساً لأنَّ الآية إذا دلت على عدم البراءة قبل الفحص لأنَّ الحكم في معرض الوصول فالحكم المستفاد منها لا يزيد على حكم العقل بالتنجيز ولزوم الاحتياط قبل الفحص، وقد تقدم أنَّ الحكم العقلي بالتنجيز معلق على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع وحديث الرفع بإطلاقه يعتبر ترخيصاً في المخالفة فيرتفع الحكم العقلي.


logo