46/10/23
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/ الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
شرائط جريان البراءة
الأول: في وجوب الفحص، والكلام تارة يقع في الشبهات الحكمية وأخرى في الشبهات الموضوعية، أما الشبهات الحكمية فالكلام فيها تارة يقع عن اشتراط الفحص في جريان البراءة العقلية وأخرى عن اشتراط الفحص في جريان البراءة الشرعية، والتفصيل:
أولاً: اشتراط الفحص في البراءة العقلية
فعلى القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان هل يُشترط في جريانها وجوب الفحص أو لا ؟
استدل لوجوب الفحص بأنَّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب إنما هو عدم البيان وهو يعني المعذورية عند عدم البيان، ومن الواضح أنَّ المكلف قبل الفحص لا يحرز عدم البيان، فإذا فحص في مظان وجود التكليف ولم يعثر عليه فله أن يقول لا بيان على هذا التكليف فيجري البراءة، وأما قبل ذلك ومع احتمال وجود ما يدل على ثبوت التكليف فليس له أن يقول ذلك.
وقد يقال: لا إشكال في أنَّ المكلف قبل الفحص يحرز عدم وصول البيان إليه ومع احرازه ذلك لا موجب للفحص.
وجوابه: إنَّ موضوع القاعدة ليس هو عدم وصول البيان - ولا عدم البيان الواقعي الذي لا يمكن احرازه حتى بعد الفحص - وإنما هو عدم البيان الذي يكون في معرض الوصول، وهذا ما يمكن إحرازه بالفحص، فلا بد منه لإحراز موضوع البراءة.
والظاهر أنَّ هذا البيان تام لإثبات وجوب الفحص في البراءة العقلية في الشبهات الحكمية، فإذا راجع الفقيه الروايات في مظانها ولم يجد ما يدل على التكليف فيمكنه اجراء البراءة لنفي التكليف المحتمل.
بل يمكن أن يقال إنه حتى بناءً على انكار البراءة العقلية والقول بمسلك حق الطاعة يتم البيان المتقدم ولكن بصيغة أخرى، بمعنى أنَّ القائل بمسلك حق الطاعة إنما ينكر أن تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقلية وأنَّ ما يحكم به العقل هو منجزية الاحتمال بالنسبة الى تكاليف المولى الحقيقي، ولا ينكر أن تكون قاعدة عقلائية يبني عليها العقلاء في المولويات العرفية الجعلية، فإنَّ احتمال التكليف معذر بنظرهم ويقبح العقاب مع عدم البيان، فإذا ثبت أنَّ القاعدة عقلائية فتكون مشروطة بالفحص بالبيان السابق.
ثانياً: اشتراط الفحص في البراءة الشرعية
هل البراءة الشرعية المستفادة من أدلتها كحديث الرفع مشروطة بالفحص أو لا ؟
يبدو أنَّ الجميع يتفق على وجوب الفحص قبل إجراء البراءة الشرعية وعدم جواز العمل بها قبل الفحص، نعم هناك كلام في أنَّ ذلك هل هو لقصور المقتضي - أي عدم اطلاق الدليل - أم لوجود المانع ؟
فتارة نقول إنَّ دليل البراءة الشرعية فيه اطلاق يشمل ما قبل الفحص وما بعده ولكن هناك مانع من شمول هذا الاطلاق لما قبل الفحص، وأخرى نقول هناك قصور في المقتضي أي لا يوجد إطلاق في أدلة البراءة الشرعية بحيث تثبت البراءة لما قبل الفحص وما بعده، فيكون دليل البراءة مختصاً بما بعد الفحص، فعلى كلا التقديرين لا يمكن إجراء البراءة قبل الفحص سواءً كان ذلك لقصور المقتضي أو لوجود المانع، هذا فيه خلاف، وأما أصل عدم جواز إجراء البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية قبل الفحص فهو مسلَّم عندهم.
ومن هنا قد يُبيَّن وجه عدم جريان البراءة قبل الفحص تارة باعتبار قصور المقتضي وأخرى باعتبار وجود المانع، أما باعتبار قصور المقتضي فيُبين بوجوه:
الوجه الأول: وهو مبني على انكار البراءة العقلية والالتزام بمنجزية الاحتمال، ومعناه إنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي قاعدة عقلائية وليست عقلية فالعقلاء فيبنون عليها فيما بينهم في المولويات العرفية وأنَّ احتمال التكليف معذر للعبد أمام مولاه ، ومن هنا لا تشمل هذه القاعدة مولوية المولى الحقيقي وهي مولوية ذاتية غير مجعولة ومطلقة، فهو مولى في الأحكام المعلومة والأحكام المشكوكة ، وبيان ذلك بأن يقال:
إنَّ الارتكاز العقلائي على قبح العقاب بلا بيان مختص عند العقلاء بما بعد الفحص، أي لا يرى العقلاء الجاهل معذوراً قبل الفحص وأن عقابه يكون عقاباً في محله، وإثبات ذلك يكون بمراجعة المولويات العرفية، فإنهم يرون أنَّ الجاهل بالتكليف معذور بعد الفحص، وهذا يعني أنَّ هذا الارتكاز العقلائي يوجد فيه جانب سلبي مضافاً الى الجانب الايجابي، أما الايجابي فهو وهو معذورية الجاهل بعد الفحص، وأما السلبي فهو عدم معذورية الجاهل قبل الفحص، فيدعى أنَّ الارتكاز قائم على الجانب السلبي أيضاً، وحينئذٍ يدعى أنَّ هذا الجانب السلبي والأصل العقلائي هو الموجب لاختصاص دليل البراءة بما بعد الفحص ومنع اطلاقه لما قبل الفحص، بنكتة أنَّ الدليل الشرعي في مورد الارتكازات العقلائية يكون ظاهراً في امضاء ذلك الارتكاز وإمضاء الأساس الذي يستند إليه ذلك الارتكاز فيتحدد بحدود مورد الارتكاز ويتبعه في السعة والضيق، وحيث أنَّ الارتكاز في جانب سلبي وهو عدم معذورية الجاهل قبل الفحص بالإضافة الى الجانب الايجابي فدليل البراءة الذي يعني معذورية الجاهل يكون كذلك وهذا يكون مانعاً من انعقاد الاطلاق في دليل البراءة.
ويلاحظ عليه: بأنَّ وجود ارتكاز عقلائي على معذورية الجاهل بعد الفحص لا يلازم وجود ارتكاز على عدم المعذورية قبل الفحص، وإنما يلازم عدم وجود ارتكاز على المعذورية قبل الفحص، وهو لا يعني وجود ارتكاز على عدم المعذورية، ومرجعه الى انكار الجانب السلبي في الارتكاز.
نعم قد يقال: إنَّ العقل يحكم بعدم معذورية الجاهل قبل الفحص أما إذا قلنا بالبراءة العقلية فباعتبار أنها تعني معذورية الجاهل بعد الفحص وأما قبله فالعقل لا يحكم بالمعذورية بل يحكم بعدم المعذورية ، وأما إذا انكارنا البراءة العقلية وقلنا بمسلك حق الطاعة فهو يعني الالتزام بأنَّ العقل يحكم بعدم معذورية الجاهل قبل الفحص وبعده، فيقال حينئذٍ إنَّ هذا الحكم العقلي يمنع من انعقاد الاطلاق في أدلة البراءة.