46/08/09
الشك في إطلاق الجزئية في حالة العجز/ أصالة الاحتياط / الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / الشك في إطلاق الجزئية في حالة العجز
تبيّن مما تقدم بأنَّ إرادة التبعيض من الرواية بجعل كلمة (من) للتبعيض وإن كان يجعل الرواية دالة على قاعدة الميسور إلا أنه ينافي موردها، فيلزم اخراج المورد وهو مستهجن عرفاً.
محاولة المحقق الأصفهاني قده:
حاول المحقق الأصفهاني تجاوز هذا الإشكال بدعوى أنَّ (من) ليست للتبعيض بعنوانه وبالمعنى الذي لا يلائم الكلي وفرده، ويختص بالكل وأجزائه، وإنما هي لمجرد اقتطاع مدخولها عن متعلقه وإفرازه عنه، وهذا كما يناسب اقتطاع الجزء من الكل والذي يتحقق به التبعيض بعنوانه نحو ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾[1] ،كذلك يناسب اقتطاع الفرد من الكلي، وذلك لأنَّ الكلي له نحو إحاطة وشمول لأفراده فيمكن اقتطاع الفرد منه، فقوله - صلى الله عليه وآله - : (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) يعني فرداً من أفراد الحج.
وظاهر كلامه هو الاعتراف بأنَّ التبعيض بعنوانه لا ينطبق على الكلي مع فرده وإلا لما احتاج الى هذا التفسير.
ويلاحظ عليه: أولاً: إنَّ الظاهر من قولهم أنَّ (من) للتبعيض هو أنها للتبعيض بعنوانه، فافتراض أنها بعنوان الاقتطاع بحاجة الى إثبات ولا دليل عليه.
ثانياً: يظهر من كلامه أنَّ الغرض من هذه الدعوى هو إثبات شمول فقرة الاستدلال لكل من موردها ولمحل النزاع، أي شمولها للكل مع جزئه وللكلي مع فرده، ويريد اثبات ذلك بالإطلاق فيقول: لا يُراد منها التبعيض بعنوانه وإنما يراد منها الاقتطاع بالبيان المتقدم، وكأنه يقول أنَّ (من) مستعملة في معنى عام يشمل كِلا الأمرين الكل والكلي، فإن أراد ذلك فيرد عليه أمرين:
الأول: أنه مبني على أنَّ وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يمنع من الاطلاق، وهو الرأي المعروف والصحيح، خلافاً لصاحب الكفاية، والقدر المتيقن في هذه الرواية هو موردها وهو الكلي مع الفرد.
الثاني: ما تقدم من أنَّ لازم شمول الرواية للمورد هو الالتزام بوجوب تكرار الحج مع القدرة، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.
والذي يمكن أن يقال في المقام هو إذا التزمنا بأنَّ الظهور الأولي لـــ (من) هو التبعيض - وأنَّ حملها على غير ذلك خلاف الظاهر - فحينئذٍ نقول:
إنَّ (ما) إن كانت موصولة كانت مفعولاً به لـــ (فأتوا) فيكون المعنى: إذا أمرتكم بمركب من أجزاء فأتوا بما تستطيعون من أجزائه، فإذا كان المكلف قادراً على معظم الأجزاء وعجز عن جزء واحد مثلاً فيجب عليه الاتيان بالباقي، فتكون دالة على قاعدة الميسور، لكنّ الاشكال فيها هو ما تقدم من لزوم اخراج مورد الرواية عنها وهو مستهجن.
وأما إذا كانت (ما) مصدرية وليست موصولة فإن كان التبعيض لا يناسب الكلي مع فرده فلا بد من حملها على المركب أي الكل مع جزئه، وحينئذٍ يكون المعنى: إذا أمرتكم بمركب فأتوا ببعضه ما دمتم مستطيعين، وحينئذٍ يقال:
إنه لا يدل على قاعدة الميسور وإنما يدل على اشترط القدرة، هذا أولاً، وثانياً لا معنى لوجوب البعض عند الأمر بالمركب ما دمتُ مستطيعاً، هذا إذا قيل بأنَّ التبعيض لا يناسب الكلي وفرده.
وأما إذا قيل أنَّ التبعيض يناسب الكلي وفرده فالإشكال فيه هو ما تقدم من لزوم تكرار الحج في كل عام مع فرض القدرة عليه.
ومن هنا يتبين أنَّ الاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور على بعض الاحتمالات تام لكن الإشكال فيه هو أنَّ الرواية لا تنطبق على موردها، ويلزم من حمل الرواية عليه اخراج موردها عنها، وعلى البعض الآخر تنطبق على موردها ولكنها لا تدل على القاعدة.
احتمال آخر:
وهناك احتمال آخر في هذه الرواية يجعلها أجنبية عن محل الكلام، وهو أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله - امتنع عن جواب السائل ثلاث مرات، ثم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم)، وهو واضح في عدم رضاه عن السؤال وعن تكراره، ثم فرَّع على كلامه فقرة الاستدلال فقال: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) ويظهر منه أنَّ جواب السائل هو هذا، أي أنَّ المطلوب هو امتثال الأمر لا غير، ويكفي في امتثال الأمر بالطبيعة الاتيان بفرد من أفرادها، ولذا عطف عليه النهي فقال: (وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) في إشارة الى أنَّ النهي يقتضي الاجتناب عن جميع أفرادها، وبناءً عليه تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام وتنطبق على موردها، والمناسب له أن لا تكون (من) تبعيضية وإنما تكون بيانية، وتكون (ما) مصدرية لا موصولة، المعنى حينئذٍ:
إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم، غاية الأمر أنه عبَّر عن الاتيان بالحج مرة بالمستطاع وكأنَّ تكراره باعتبار اشتماله على المشقة غير مستطاع، وهذا الوجه حسن.
الرواية الثانية: (الميسور لا يسقط بالمعسور)
وتقريب الاستدلال بها هو أن يقال:
إنها ظاهرة في أنَّ الميسور من كل شيء لا يسقط بتعذر بعض أجزائه، فيقال في المقام إنَّ الباقي من الأجزاء بعد تعذر هذا الجزء يكون ميسوراً من الشيء فلا يسقط، وهو معنى القاعدة.
ثم ذكروا ثلاثة احتمالات في (لا يسقط):
الاحتمال الأول: أنه نهي بلسان النفي من قبيل ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾[2] ، فإنه نفي يُراد به النهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، فــ (لا يسقط) نهي بلسان النفي، وهذا من قبيل الأمر بلسان الإخبار نحو (يعيد الصلاة) فهو إخبار لكن يُراد منه الأمر بالإعادة.