46/08/06
الشك في إطلاق الجزئية في حالة العجز/ أصالة الاحتياط /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / الشك في إطلاق الجزئية في حالة العجز
قاعدة الميسور
مما استُدل به على وجوب الاتيان بالباقي بعد تعذر بعض أجزاء المركب هو قاعدة الميسور، وقد ادعي استفادتها من جملة من الأخبار، لكنها بحسب القواعد الأولية غير تامة سنداً إلا بإعمال عنايات، وهي ثلاث روايات:
الأولى: هي ما ورد من طرق العامة ورواه ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي:
(..عن أبي هريرة ، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج ، فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)[1]
الثانية: مرسلة في عوالي اللئالي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (الميسور لا يسقط بالمعسور)[2] أو (لا يترك الميسور بالمعسور).
الثالثة: مرسلة في العوالي أيضاً عنه عليه السلام: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)[3]
فقيل إنَّ هذه الروايات دالة على قاعدة الميسور بمعنى أنَّ تعذر بعض الأجزاء من المركب لا يوجب سقوط الباقي.
أما سندها فهي مراسيل ومن كتب العامة وليست ثابتة من طرقنا، وقد طَعن في المصنف وفي الكتاب من ليس دأبه الطعن في الأصحاب كما قيل، لكن جماعة من المحققين منهم المحقق النائيني والمحقق العراقي ذكروا بأنَّ مضمون هذه الروايات مشهور بين الأصحاب، وذهبوا الى تمامية السند لاشتهارها وأنَّ ذلك يُغني عن التكلم في سندها.
وهذه الدعوى غير واضحة لا كبروياً ولا صغروياً، أما كبروياً فإنَّ شهرة الرواية وإن كانت توجب ترجيح إحدى الروايتين المتعارضتين على الأخرى - على رأي - لكنها لا تجبر السند الضعيف وإنما يكون الجابر لضعف السند - على قول - هو عمل المشهور، نعم يحتمل قوياً أنَّ مقصودهم من اشتهارها هو عمل الأصحاب بها، فحينئذٍ يُبنى على المسلك المختار في الجابرية، وهم يؤمنون بها، بمعنى أنَّ الرواية الضعيفة يجبر ضعفها السندي عمل الأصحاب بها، وهذه الروايات اشتهر العمل بها فيكون ذلك جابراً لضعفها السندي، فإذا كان هذا هو مقصودهم من الاشتهار فتكون المناقشة في كبرى الجابرية وأنها غير ثابتة عندنا، وإن كان إعراض المشهور يوهن الخبر التام سنداً.
وأما الصغرى فالإشكال فيها هو أنَّ هذه الروايات لم تُذكر في شيء من كتبنا الحديثية، وإنما ذُكرت في كتب العامة وفي كتاب عوالي اللئالي.
نعم إذا اُريد اشتهار العمل بها - وهو غير بعيد – فالصغرى غير تامة أيضاً، لأنَّ الأصحاب إذا فُرض التزامهم بوجوب الاتيان بالباقي ولكن لا يُعلم أنهم استندوا في ذلك الى هذه الروايات، إذ يحتمل استنادهم الى الاستصحاب كما تقدم، أو الى حديث الرفع أو الى أدلة الاضطرار كما سيأتي، بل قيل إنه لا يُعلم عمل الاصحاب بقاعدة الميسور إلا في باب الصلاة، وهذا ما يوجب التشكيك في استنادهم الى هذه الأخبار لأنها مطلقة وغير مختصة بباب الصلاة، على أنَّ في باب الصلاة توجد أخبار خاصة تدل على وجوب الاتيان بالباقي من قبيل أنَّ الصلاة لا تترك بحال وأمثاله، وعلى كل حال دعوى إتمام سند هذه الروايات صعب قبولها لا كبروياً ولا صغروياً.
وعلى أي حال الكلام يقع في الدلالة وفيها أبحاث قيمة ومهمة:
أما الرواية الأولى فالاستدلال فيها بفقرة (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) وذلك بأن يقال:
إنَّ (من) للتبعيض وهي متعلقة بــ (ما استطعتم) أي فأتوا ما استطعتم منه، و(ما) موصولة وتكون مفعولاً به لـــ (فأتوا)، و(شيء) يراد به المركب ذو الأجزاء، والمعنى على هذا هو: إذا أمرتكم بمركب من أجزاء وعجزتم عن الاتيان به بتمامه فأتوا بما استطعتم منه، فإذا تعذر جزء منه فيجب عليكم الاتيان بالباقي، وبذلك يثبت وجوب الاتيان بالباقي من أجزاء المركب، وتكون دالة على قاعدة الميسور.
وقد تعرض الشيخ الأعظم في الرسائل الى هذه الرواية ويفهم من كلامه أنَّ الاستدلال بالرواية موقوف على أن تكون (من) للتبعيض وإلا لم يتم الاستدلال، ولذا صرف الكلام الى إثبات بطلان الاحتمالات الأخرى وهي (من) الزائدة، والبيانية، والتي بمعنى الباء، وتعيُّن أن يكون المراد منها التبعيض.
أما الأمر الأول – وهو أنَّ الاستدلال لا يتم إذا أريد أحد هذه الاحتمالات – فذكر أنَّ (من) إذا كانت بيانية من قبيل (أساور من ذهب)، أو بمعنى الباء كما في قوله تعالى: ﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾[4] ، أي بطرف خفي، أو زائدة كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾[5] ، فعلى جميع هذه التقادير لا يُستفاد منها قاعدة الميسور وإنما تكون دليلاً على أنَّ التكليف مشروط بالقدرة، أما إذا كانت بمعنى الباء فيكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء فاتوا به ما استطعتم) أي إذا كنتم مستطيعين وقادرين فيجب عليكم الاتيان به، ولا تكون حينئذٍ (ما) موصولة وإنما تكون مصدرية، فلا يصح الاستدلال بها.
ونفس الكلام يقال إذا كانت (من) بيانية فالمعنى (إذا أمرتكم بشيء فأتوه ما استطعتم) أي يجب عليكم الاتيان بما أمرتكم به ما دمتم مستطيعين، وهذا أجنبي عن قاعدة الميسور، ونفس الكلام يقال إذا كانت (من) زائدة والمعنى (إذا أمرتكم بشيء فاتوه ما استطعتم).
وعليه فيتوقف الاستدلال على أن تكون (من) للتبعيض، وعليه لا بد من أن يكون المراد من (أمرتكم بشيء) هو المركب ذو الأجزاء، وتكون (ما) موصولة ومفعول به لـــ (فأتوا) والمعنى كما تقدم هو: إذا أمرتكم بمركب ذو أجزاء فيجب عليكم الاتيان منه بما تقدرون عليه، فإذا عجزتم عن جزء منه فيجب عليكم الاتيان بالباقي، وهذا هو مفاد قاعدة الميسور،
وأما نفي الاحتمالات الثالثة فلأنها خلاف الظاهر ولا يُصار إليها إلا مع القرينة، وحيث يمكن حمل (من) على التبعيض بلا محذور فلا موجب لحملها على خلاف الظهور الأولي لها، هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام تقريب الاستدلال بهذه الرواية على قاعدة الميسور.
نعم تبقى مشكلة أخرى فيها وهي أنَّ مورد الرواية لا يتلاءم مع إرادة المركب من أجزاء لأنَّ موردها الكلي أي الحج الذي له أفراد لا الكل الذي له أجزاء، ومعه فما ذُكر لا ينطبق على مورد الرواية، فيلزم منه اخراج المورد وهو مستهجن عرفاً، فلا بد إما من حمل (من) على خلاف ظاهرها ومعه لا يصح الاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور، وإما أن يراد بالتبعيض معنى يشمل الكلي وأفراده فيرتفع الاشكال ويصح الاستدلال بها على القاعدة.
ذهب جماعة الى الأول وبنوا على عدم صحة الاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور، واختار آخرون الثاني فيصح الاستدلال بها على القاعدة، وهذا الرأي ذهب إليه جماعة بدعوى أنَّ الفرد بعض من الطبيعة كما أنَّ الجزء بعض المركب، فكما أنَّ (من) في قولنا: (اشتريت من البستان نصفه) مستعملة في التبعيض كذلك قولنا: (لا أملك من البستان إلا واحداً) ومن الواضح الثاني من قبيل الكلي وأفراده والتبعيض بلحاظ الأفراد وكل منهما صحيح.
ويلاحظ عليه:
أولاً: من الصعب قبول هذه الدعوى فإنَّ الفرد ليس بعضاً من الكلي وإنما هو مصداق للكلي، فالتبعيض بمعناه الحقيقي لا ينطبق على الكلي مع أفراده وإنما ينطبق حقيقة على الكل مع أجزاءه.
وثانياً: إنَّ لازم شمول الرواية للكلي مع أفراده هو أنه يجب على المكلف أن يكرر الحج مع الاستطاعة في كل سنة وهذا ما لا يلتزم به أحد.