46/06/28
دوران الأمر بين الأقل والاكثر في المحصِّل/ أصالة الاحتياط / الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / دوران الأمر بين الأقل والاكثر في المحصِّل
تنبيه: إنَّ مثال صوم شهر هلالي الذي لاحظنا عليه بأنه من الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ومحل الكلام في الارتباطيين إنما يرد الاشكال عليه إذا لُحظ الشهر بنحو الاستقلال، بمعنى أنَّ كل يوم هو واجب مستقل وله اطاعة ومستقلة وعصيان مستقل، وأما إذا لُحظ بنحو المجموع فلا يكون كذلك، وإنما الاطاعة واحدة للمجموع والعصيان كذلك فيكون حينئذٍ من الارتباطيين ولا يرد الاشكال، وكذا الكلام في مثال أكرم العلماء.
دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصِّل:
ميَّزنا في ما تقدم بين المحصِّل العرفي والعقلي من جهة وبين المحصِّل الشرعي من جهة أخرى، وأنَّ المراد من الثاني هو ما يكون المسبَّب فيه مجعولاً شرعياً، كالطهارة الشرعية من الخبث أو الحدث فإنَّ لها سبب شرعي كالغسلات والطهارات الثلاث، فالمسبَّب إذا كان مجعولاً شرعياً فلا بد أن يكون سببه شرعياً أيضاً، فإنَّ المكلف بما هو عاقل لا يتمكن من معرفة ما هو المحصِّل لهذا المسبَّب الشرعي فلا بد من تكفل الشارع بيان محصله، وبهذا يختلف عن المسبَّب غير الشرعي إذ لا يتدخل الشارع في بيان مُحصِّله وإنما يكل أمره الى المكلف، وعليه فإذا كان المحصِّل عرفياً أو عقلياً فلا ينبغي الإشكال في أنَّ الأصل الجاري هو الاشتغال، وأما إذا كان المحصل شرعياً فيقع النزاع في أنَّ الأصل الجاري هل هو الاشتغال أم البراءة.
أما أنه لا ينبغي الاشكال في الأول وأنَّ الأصل فيه هو الاشتغال فلما تقدم من أنَّ الشارع لا يتدخل في بيان المحصِّل وإنما يكله الى المكلف، فيُحدد العقل ما يحصِّل المسبَّب فإذا دار أمره بين الأقل والأكثر فتجري قاعدة الاشتغال لإثبات وجوب الأكثر، وعلى هذا تحمل عباراتهم المطلقة من أنَّ الشك في المحصِّل هو مورد لقاعدة الاشتغال.
وأما إذا كان المحصِّل شرعياً فتعيينه يكون على الشارع وهو محل النزاع، فالرافع للخبث هل هو غسلة واحدة أو أكثر، فيدور الأمر بين الأقل والأكثر بلحاظ المحصِّل، وكذا الكلام في الطهارة من الحدث إذا شككنا في اعتبار شرط في الوضوء أو الغسل أو التيمم بناءً على أنَّ المأمور به هو المسبَّب عنها وهو الطهارة الحاصلة، أي نتيجة الفعل لا نفس الغسلات، وإلا لم يكن شكاً في المحصِّل وإنما يكون من الدوران بين الأقل والأكثر في باب الأجزاء.
وفي المقام أقوال ذهب المحقق النائيني قده الى البراءة، ونقل عن بعض الأعلام ذهابه الى الاشتغال - وقيل أنَّه المجدد الشيرازي قده - وذهب المحقق العراقي قده الى التفصيل، وتفصيل ذلك:
القول الأول جريان البراءة، ويُستدل له ببيانين:
الأول: أن يقال إننا نشك في اعتبار الزائد في المُحصِّل الشرعي للواجب - كما إذا شككنا في اعتبار غسلة ثانية للطهارة من الخبث - فيدور أمر السبب بين الأقل الأكثر فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، وهذا في حقيقته من الشك في التكليف.
وبعبارة أخرى إنَّ المكلف يعلم دخالة الأقل في حصول الواجب ويشك في دخالة الزائد فتجري البراءة لنفي دخله ونفي جزئيته، فيجوز الاقتصار على الأقل.
البيان الثاني: المفروض في محل الكلام إنَّ المحصِّل شرعي، وهذا يعني أنَّ العرف لا دخل له في تحديده، فالمتكفل ببيان ما يُحصِّل المجعول الشرعي هو الشارع، فيقال إنَّ التكليف وإن كان معلوماً ومتعلقاً بالمسبَّب لكن لما كان المحصِّل شرعيً أيضاً والشارع هو المسؤول عن بيانه فالمكلف بنظر العقل لا يكون مسؤولاً إلا عن ما تم عليه البيان وهو الأقل فيمكن أن يجري البراءة عن الزائد.
القول الثاني هو الاشتغال ويُستدل على عدم جريان البراءة بوجوه:
الوجه الأول: وهو دعوى عدم توفر شروط جريان البراءة في محل الكلام، وذلك لأنَّ البراءة تارة يُراد اجراؤها لنفي سببية الأكثر، وأخرى يُراد اجراؤها لنفي سببية الأقل، أما الأول فغير صحيح وذلك لأنه لا شك في حصول المسبَّب عند الاتيان بالأكثر وإنما الشك في حصوله عند الاتيان بالأقل، وأما الثاني فسببية الأقل وإن كانت مشكوكة لكن الظاهر من أدلة البراءة أنها واردة مورد الامتنان ولا امتنان في نفي سببية الأقل، بل فيه تضييق على المكلف لأنه يعني نفي حصول المسبَّب على الأقل فلا بد من الاتيان بالأكثر، فلا تجري البراءة لا لنفي سببية الأكثر ولا لنفي سببية الأقل، فيتعين إجراء الاشتغال.
ويلاحظ عليه: بأنَّ سببية الأقل مشكوكة وليست معلومة كما إدعي، نعم المعلوم هو حصول المسبَّب عند حصول الأكثر، لكنَّ هذا غير سببية الأكثر بما هو أكثر، أو قل إنَّ حصول المسبَّب عند الاتيان بالأكثر لا شك فيه ولكن حصوله هل هو للإتيان بالأكثر بما هو أكثر أو للإتيان بالأقل في ضمن الأكثر؟ فلا يقين بسببية الأكثر لحصول المسبَّب، فهي مشكوكة تجري فيها البراءة، وبعبارة أخرى تجري البراءة في اعتبار جزئية الزائد، وهو يعني الاكتفاء بالأقل.
الوجه الثاني: ما قيل لو سلَّمنا جريان البراءة في سببية الأكثر لأنها مشكوكة لكن هذا لا يمنع من حكم العقل بلزوم الاتيان بالأكثر وذلك باعتبار أنَّ البراءة عن سببية الأكثر لا يثبت بها سببية الأقل إلا بناءً على الأصل المثبت، فلا يصح الاكتفاء بالأقل في مقام امتثال المسبَّب المعلوم الوجوب فلا بد من الإتيان بالأكثر تحصيلاً لليقين بالفراغ.