« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/06/16

بسم الله الرحمن الرحيم

 دوران الأمر بين الأقل التعيين والتخيير/ أصالة الاحتياط / الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / دوران الأمر بين الأقل التعيين والتخيير

 

تبين مما تقدم أنَّ محل الكلام هو في خصوص القسم الأول من الأقسام التي ذكرها المحقق النائيني، وهو الدوران بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل بلحاظ الأحكام الواقعية، كوجوب صلاة الجمعة الدائر بين الوجوب التعييني والوجوب التخييري، فهنا نعلم بالتكليف ونعلم بتعلقه بأمر معين بتمام خصوصياته ولكن نشك هل بدل أو ليس له بدل، وأما نفس الواجب فلا شك فيه.

ومنه يظهر الفرق بينه وبين ما تقدم في مسألتي دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء وفي الشرائط فإنَّ التردد هناك في نفس الواجب وهل أُخذت فيه خصوصية جزءاً أو شرطاً أو لم تؤخذ فيه كذلك، وفي محل الكلام الواجب معلوم بتمام حدوده وإنما الشك في أنَّ له بدل أو لا، هذا هو القسم الأول.

وأما القسم الثاني وهو الدوران بين التعيين والتخيير في عالم الجعل بلحاظ الأحكام الظاهرية كالحجية، بمعنى أنَّ الشارع هل جعل الحجية لهذا المعين أو جعلها مرددة بين أمرين، ومثاله الحجة على العامي هل هي قول الأعلم خاصة أو هو مخير بين قول الأعلم وبين غير الأعلم.

والظاهر إنَّ هذا القسم حكمه التعيين بالاتفاق، وذلك باعتبار أنَّ قول الأعلم مقطوع الحجية وقول غيره محتمل الحجية، فقول الأعلم حجة على كل تقدير وقول غيره ليس كذلك، وإنما يكون حجة على القول بالتخيير، فهو محتمل الحجية والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها.

وأما القسم الثالث وهو الدوران بين التعيين والتخيير في باب الامتثال ومثاله التزاحم، والظاهر اتفاقهم على التعيين وعدم جريان البراءة لإثبات التخيير، والسر في ذلك هو أنَّ التخيير مرجعه الى الالتزام بتقييد إطلاق كلا التكليفين بعدم الاتيان بالآخر، كما لو تزاحم لديه انقاذ غريقين متساويين في الأهمية مع فرض عدم تمكنه من انقاذهما معاً، وإنقاذ الأول مطلقاً – أي سواء أنقذ الثاني أو لا – ليس بأولى من العكس، فإطلاق كلا التكليفين غير معقول، فلا بد من التقييد، فإن تساويا في الأهمية فيُقيَّد اطلاق التكليف في كل منهما بعدم انقاذ الآخر، وإن كان أحدهما أهم فيُقيَّد اطلاق التكليف بالمهم ويبقى اطلاق التكليف بالأهم، فيجب الاتيان بالمهم في حالة ترك الأهم، كما قالوا في فرض التزاحم بين إزالة النجاسة عن المسجد وبين الصلاة.

وكذا إذا كان أحدهما محتمل الأهمية فإنَّ الاتيان به مبرئ للذمة جزماً بينما الاتيان بغيره لا جزم بكونه كذلك، فيتعين الالتزام بالتعيين ولزوم الاتيان بمحتمل الأهمية ولا تجري البراءة فيه.

تنبيهان:

الأول: إنَّ محل الكلام مشروط بأن لا يكون هناك أصل لفظي ولا استصحاب موضوعي يرتفع بهما الشك وإلا فلا شك بين التعيين والتخيير، فلو فرضنا أننا كنا على يقين سابق بالوجوب التعييني لصلاة الجمعة ثم شككنا في بقائه أو تحوله الى الوجوب التخييري فالاستصحاب يقتضي بقاء الوجوب التعييني، وقد يُعيّن الاستصحاب التخيير إذا كانت هي الحالة السابقة، وهكذا لو اقتضى إطلاق الدليل التعيين فهو ينفي الشك بين التعيين والتخيير ونأخذ بإطلاق الدليل.

الثاني: إنَّ محل الكلام فيما إذا كان الوجوب في الجملة متيقناً ودار أمره بين الوجوب التعييني والوجوب التخييري فيقع السؤال عن جريان البراءة لنفي الوجوب التعييني المحتمل أو عدم جريانها، وأما إذا لم يكن الوجوب متيقناً كما إذا دار بين كون شيء واجباً تعيينياً أو تخييرياً أو مباحاً فإنه لا ينبغي الاشكال في جواز الرجوع الى البراءة لنفي الوجوب.

هذان تنبيهان قبل الدخول في أصل البحث.

أما أصل البحث فقد ذكر كثير من المحققين بأنَّ المختار يختلف باختلاف الوجوه المذكورة لتفسير حقيقة الوجوب التخييري، فلا بد من ذكرها لنرى على أي وجه يمكن إجراء البراءة وعلى أي وجه لا يمكن اجراؤها، وهي عديدة:

الوجه الأول: إنَّ الوجوب التخييري هو عبارة عن وجوب كل من العدلين بشرط ترك الآخر، فالعتق واجب إذا ترك الاطعام، والاطعام واجب إذا ترك العتق، وهذا يعني وجوب كل منهما بشرط ترك الآخر، وبناءً عليه يكون الشك في التعيين والتخيير للعتق مثلاً راجع الى الشك في أنَّ وجوب العتق مثلاً هل هو مطلق أو مشروط بعدم الاطعام، وهذا يعني أننا نعلم تفصيلاً بوجوب العتق في حالة ترك الاطعام ونشك في وجوبه في حالة فعل الإطعام، فتجري البراءة لنفي وجوب العتق في حالة الاتيان بالإطعام، ويثبت بذلك التخيير وعدم التعيين، وعليه يكون العلم الإجمالي بوجوب العتق مطلقاً أو مشروطاً منحلاً انحلالاً حقيقياً بالعلم التفصيلي بأنه واجب إذا لم يُطعم والشك البدوي بأنه هل يجب العتق إذا لم يُطعم أو لا فتجري فيه البراءة.

ونوقش فيه بأمور:

الأمر الأول ما ذكره المحقق النائيني من أنَّ المرجع في المقام هو الاشتغال لا البراءة، وذلك باعتبار أنَّ الشك في المقام يرجع الى الشك في سقوط ما عُلم تعلق التكليف به بفعل ما يُحتمل كونه بدلاً، والأصل الجاري فيه هو الاشتغال.

ومراده هو أنَّ الشك في المقام هو الشك في حصول الامتثال بعد العلم بثبوت التكليف، ففي المثال يكون العتق مفرغاً للذمة يقيناً وأما الاطعام فلا يُعلم سقوط التكليف المعلوم به فلا يجوز الاكتفاء به.

logo