46/06/09
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين/ أصالة الاحتياط /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
كان الكلام في التقريب الثاني للاستدلال بالاستصحاب على البراءة حيث يُدعى فيه استصحاب عدم جعل الوجوب للأكثر فتثبت به البراءة وعدم لزوم الاتيان بالزائد.
واعترض عليه المحقق النائيني بعدم جريانه لعدم ترتب الأثر على استصحاب الجعل، وإنما تترتب تمام الآثار على المجعول، وإثبات المجعول باستصحاب الجعل يتوقف على القول بالأصل المثبت، كما أنَّ استصحاب عدم الجعل – وهو محل الكلام – لا أثر له أن يراد إثبات عدم المجعول ثم نفي الآثار المترتبة على عدم المجعول، لكن إثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يتوقف على القول بالأصل المثبت.
فاستصحاب عدم الجعل إما لا أثر له وإما يكون اصلاً مثبتاً، وعليه لا يُعارِض استصحاب المجعول إذا تمت شرائطه، ومن هنا يقال بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
وأجاب عنه المحقق العراقي بأنَّ الاستصحاب المذكور ليس أصلاً مثبتاً وإنما يكون كذلك فيما لو كان الأثر المراد إثباته أثراً مترتباً على المستصحب بوجوده الواقعي كما في نبات اللحية بالنسبة الى بقاء حياة زيد، وأما إذا كان الأثر أثراً للمستصحب بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري فيترتب الأثر ولا يكون الأصل بلحاظه مثبتاً، كما في حكم العقل بحسن إطاعة التكليف الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري وقبح معصيته، وما نحن فيه من هذا القبيل فعدم المجعول يترتب على عدم الجعل بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري.
ويلاحظ عليه بأنَّ المقام ليس من قبيل القسم الثاني وذلك باعتبار أنَّ الأثر العقلي في القسم الثاني هو عبارة عن حكم العقل بحسن إطاعة التكليف الشرعي وقبح معصيته، وموضوع هذا الحكم العقلي هو الحكم الشرعي، لا يُفرِّق العقل بين الوجود الواقعي والوجود الظاهري للحكم الشرعي له فكل منهما يستند الى الشارع.
وبعبارة أدق: إنَّ الحكم العقلي من آثار ولوازم التعبد الاستصحابي وليس من آثار لوازم المستصحب، فليس كنبات اللحية الذي هو من لوازم المستصحب أي من آثار بقاء حياة زيد، ومن الواضح أنَّ لوازم الاستصحاب حجة لأنَّ الاستصحاب ثابت بالأمارة - وهي روايات زرارة - وهي حجة في مدلولها التزامي كما هي حجة في مدلولها المطابقي، فيثبت هذا الحكم العقلي باعتباره من آثار الاستصحاب، وعليه لا يرد إشكال المثبتية أصلاً، وإنما يرد لو كان اللازم المراد إثباته هو من لوازم المستصحب فإنَّ التعبد الاستصحابي لا يطالها لأنها ليست من الشؤون الشرعية، فما يثبت بالاستصحاب هو التعبد بالمستصحب وبآثاره الشرعية فقط ولا يثبت به الآثار العقلية والتكوينية للمستصحب.
وبناءً عليه نقول:
الظاهر أنَّ محل الكلام – وهو استصحاب عدم الجعل لإثبات عدم المجعول ثم نفي الآثار المترتبة على المجعول - هو من أثار المستصحب وليس من آثار التعبد الاستصحابي، لأنَّ عدم الجعل مستصحب ولازمه العقلي هو عدم المجعول، فيكون كنبات اللحية بلحاظ استصحاب حياة زيد، فاستصحاب عدم الجعل يعجز عن اثبات عدم المجعول ثم نفي الآثار المترتبة عليه.
فالظاهر أنَّ الجواب الذي ذكره المحقق العراقي غير تام، ويبقى اعتراض المحقق النائيني على التقريب الثاني للاستدلال بالاستصحاب على البراءة وارد.
جواب آخر:
وأجاب السيد الخوئي عن اعتراض المحقق النائيني بما حاصله:
إنَّ تنجُّز الحكم يتوقف على مجموع أمرين الجعل والموضوع، فتنجُّز الحكم بوجوب الصلاة موقوف على جعل الحكم من قبل المولى وعلى تحقق موضوعه كدخول الوقت، فتجب طاعته وبانتفاء أحد الأمرين ينتفي التنجُّز، واستصحاب عدم الجعل كاستصحاب عدم الموضوع أثره عدم التنجيز على تقدير تحقق الموضوع، نعم استصحاب عدم الجعل لا يترتب عليه أثر قبل تحقق الموضوع لأنَّ نفي التنجيز يستند حينئذٍ الى عدم الجعل، ولذا يجري استصحاب عدم الجعل بنظره ويكون معارضاً لاستصحاب المجعول، وعلى أساسه منع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
ويلاحظ عليه:
إنَّ ترتب الأثر – أي نفي المجعول – على عدم الجعل بعد تحقق الموضوع هل هو ترتب شرعي أو غير شرعي؟
فإذا ادعى أنه ترتب شرعي فلا معارضة بينه وبين استصحاب المجعول، فيجري استصحاب عدم الجعل ولا يجري استصحاب بقاء المجعول، لإنَّ استصحاب عدم الجعل يكون حاكماً على استصحاب بقاء المجعول، وهو واضح لأنَّ الشك في بقاء المجعول مسبب عن الشك في الجعل فإذا أمَّنَ الأصل من ناحية الجعل فكأنَّ الشارع عبدنا بعدم المجعول، وهذا من الآثار الشرعية المترتبة على عدم الجعل بحسب الفرض فلا معارضة.
وأما إذا كان الترتب ليس شرعياً – كما هو الصحيح – فإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت، أو يُراد نفي الجعل باستصحاب عدم الجعل فهو لا أثر له كما ذكر المحقق النائيني، فهذا الجواب ليس تاماً أيضاً.
وعليه في غير محل الكلام لا تتم شبهة المعارضة المانعة من اجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية، كما أنه في محل الكلام يصح الاعتراض على التقريب الثاني للاستدلال بالاستصحاب على البراءة، وهو عدم جريان استصحاب عدم الجعل إما لأنه بلا أثر أو لأنه أصل مثبت.
هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الأجزاء، ثم يقع الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الشرائط.