« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

 الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي

الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي

 

تبين مما تقدم أنَّ الأصح هو أنَّ الترخيص في المقام الثاني ترخيص ظاهري وليس ترخيصاً واقعياً لما عرفتَ من أنَّ الشك دخيل فيه، ومقتضى ذلك هو كون الترخيص ظاهرياً يثبت في حالة الشك، ويترتب على ذلك أنه لا يوجب تغيُّراً في الواقع فيبقى التكليف الواقعي على حاله من دون تبدل، والسر في ذلك هو أنَّ الحكم الظاهري لا يتنافى مع الحكم الواقعي لما ثبت في محله من إمكان الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية، فلا منافاة بينهما حتى يقال إذا ثبت الترخيص فلا بد أن يرتفع التكليف الواقعي، بل يبقى التكليف الواقعي على حاله، وهذا معناه بقاء العلم الإجمالي بالتكليف لأنَّ المكلف يعلم به على كل تقدير، فسواءً كانت النجاسة في هذا الإناء الذي اختار شربه أم في الإناء الآخر فعلى كلا التقديرين التكليف موجود.

ويترتب على هذا أنَّ التوسط يكون في التنجيز لا في التكليف، لأنَّ التكليف ثابت على كلا التقديرين كما تقدم غاية الأمر أنه على أحد التقديرين لا يكون منجَّزاً لكنه على التقدير الآخر يكون منجَّزاً، وبعبارة أخرى إنَّ هذا العلم الإجمالي لا ينجِّز وجوب الموافقة القطعية لكنه ينجِّز حرمة المخالفة القطعية.

ثم أنَّ المقرر ذكر في آخر عبارته: (أنه لا يترتب على الوجهين ثمرة مهمة)[1] أي أنَّ التوسط سواءً كان في التكليف أو في التنجيز لا ثمرة مهمة فيه!

لكن مقصوده غير واضح وذلك لوضوح ترتب الثمرة على هذين الوجهين فإنَّ التوسط في التكليف يستلزم عدم منجزية العلم الإجمالي، لأنه يعني عدم العلم بالتكليف على كلا التقديرين، وإنما يكون التكليف ثابتاً على تقدير ولا يكون ثابتاً على تقدير آخر، وإذا فرض زوال العلم الإجمالي فلا موجب للتنجيز في الطرف الآخر، ولا يكون إلا شكاً بدوياً في التكليف فتجري فيه الأصول المؤمِّنة، وأما التوسط في التنجيز فلازمه بقاء المنجزية لأنه يعني أنَّ التكليف ثابت على كلا التقديرين وإن كان لا ينجِّز على تقدير لكنه ينجِّز على تقدير آخر، وهذه ثمرة عملية مهمة.

ولعل ما ذكره فيه إشارة الى ما اختاره المحقق النائيني قده فإنه وإن التزم أولاً بالترخيص الواقعي والتوسط في التكليف الذي يقتضي سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية للطرف الآخر، ولكنه بالرغم من ذلك التزم بالمنجزية في المقام، فكأنه لا فرق بين التوسط في التكليف وبين التوسط في التنجيز في أنَّ كلا منهما يقتضي المنجزية بالنسبة الى الطرف الآخر، أما إذا قلنا بالتوسط في التنجيز فواضح، وأما إذا قلنا بالتوسط في التكليف فلأنَّ ارتفاع الحرمة واقعاً إنما يكون بعد اختيار المكلف الحرام لرفع اضطراره، وأما قبل ذلك فالحكم المعلوم بالإجمال فعليٌ ومنجَّز على كل تقدير، وهذا هو الفارق بين هذا المقام وبين الاضطرار الى المعيَّن، ففي المقام الأول الاضطرار بنفسه يكون رافعاً للتكليف في مورده فإذا كان - أي الاضطرار - سابقاً على العلم فلا محالة لا يبقى علم بالتكليف على كل تقدير، بل يرجع الأمر الى الشك في ثبوت التكليف في الطرف الآخر، وهذا بخلاف الاضطرار في المقام الثاني فإنَّ رافع التكليف فيه منحصر باختيار المكلف في مقام التطبيق، فإذا صادف انطباق الحرام عليه سقط التكليف، وأما قبل ذلك فلا مقتضي للسقوط، وعليه فالتكليف قبل الاختيار - حتى إذا كان الاضطرار سابقاً على التكليف وعلى العلم به كما هو المفروض - يكون فعلياً على كل تقدير، والشك يكون في سقوط هذا التكليف المعلوم ثبوته وهو مجرى لقاعدة الاشتغال، وعلى هذا الاساس أثبت المنجزية حتى على القول بالتوسط في التكليف، فالمحقق النائيني يلتزم بالمنجزية على كلا الوجهين فلا ثمرة كما ذكر المقرر.

والتعليق عليه:

إنَّ حاصل ما ذكره هو أنَّ رافع التكليف في محل الكلام منحصر في اختيار المكلف، وأصل هذا المطلب لوحظ عليه بأنَّ ما ذكره يعني ارتفاع الحرمة واقعاً عما يختاره المكلف، وهذا غير معقول إذ كيف يُعقل الحكم بحرمة شيء الى زمان الاختيار، أي أنَّ المكلف إذا اختار ارتكاب هذا الطرف ترتفع حرمته! فإنَّ التحريم إنما هو لأجل ردع المكلف عن اختيار ارتكاب الحرام فكيف يُعقل أن يكون مُغيى بهذا الاختيار ومرتفعاً عند حصوله! بل جعل الحرمة التي ترتفع إذا اختار المكلف الارتكاب لغو محض. وعليه لا مناص من الالتزام بكون ما يختاره المكلف محكوماً بالحلية من أول الأمر ومعه لا يبقى مجال لدعوى العلم الإجمالي بالتكليف على كل تقدير حتى يَرجع الشك الى الشك في سقوط التكليف والمرجع فيه الى أصالة الاشتغال، فلا مانع من الرجوع الى البراءة في الآخر إذا كان الاضطرار سابقاً على العلم الإجمالي.

أقول: هذه الملاحظة - والتي ذكرها السيد الخوئي - مبنية على افتراض أخذ الاختيار غاية للحرمة وعدم الاختيار شرطاً في بقاء الحرمة بنحو الشرط المقارن فترتفع الحرمة في آن الاختيار، وحينئذٍ ترد هذه الملاحظة، وأما إذا فرضنا أنَّ الاختيار أخذ بنحو الشرط المتأخر أي أنه متى ما اختار الفرد الحرام لرفع اضطراره كشف ذلك عن أنَّ هذا الطرف لم يكن حراماً عليه من البداية وعليه ليس هناك حرمة اشتغلت بها الذمة يقيناً حتى تستدعي الفراغ اليقيني، وإنما هي مرتفعة من البداية فيكون الشك في الطرف الآخر شكاً بدوياً تجري فيه الأصول المؤمِّنة.

وأما أصل الملاحظة - أي عدم تعقل جعل الحرمة مغياة بالاختيار أو أخذ عدم الاختيار شرطاً في بقاء الحرمة - فيرد عليها بأنَّ الحكم بالحرمة الى زمان الاختيار إذا كان مقيداً بالجهل فصدوره عن المكلف لا عن علم وعمد وإنما يتفق كونه حراماً أمرٌ معقول وليس لغواً، فيقال للمكلف: يحرم عليك شرب النجس حرمة مستمرة الى أن ترتكبه جاهلاً به لرفع اضطرارك، فإذا اتفق أنه كان هو الحرام ارتفعت حرمته، هذا لا إشكال فيه وإنما الاشكال في التقييد بالعلم والعمد، ولا يلزم من تقييد الحرمة بالجهل أن لا تكون الحرمة رادعة عن ارتكاب الحرام بل هي رادعة عنه في صورة العلم والعمد.

 


logo