46/03/12
الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي
الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي
كان الكلام في المقام الثاني وهو الاضطرار الى أحد الأطراف غير المعيَّن، والبحث يقع في جواز ارتكاب الطرف غير المضطر إليه، أي في جواز المخالفة القطعية، وتقدم أنَّ الآراء فيه ثلاثة، الأول للمحقق الخراساني قده حيث ذهب الى عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام، فلا تجب موافقته القطعية بل ولا تحرم مخالفته القطعية، فيجوز ارتكاب الطرف الآخر، واستدل عليه بأنَّ الاضطرار مطلقاً – أي الى المعيَّن أو الى غير المعيَّن - يوجب سقوط العلم بالإجمالي بالتكليف على كل تقدير.
وبعبارة أخرى: إنَّ الاضطرار لما كان موجباً للترخيص في الارتكاب وارتفاع التكليف فهو يمنع من العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، ومعه لا شيء يوجب تنجيز الطرف الآخر.
ولا يظهر من كلام المحقق الخراساني أنَّ هذا الترخيص الذي يقتضيه الاضطرار هل هو ترخيص واقعي أم هو ترخيص ظاهري.
لكن قد يقال أنَّ ظاهر كلامه هو أنه ترخيص واقعي لأنه ذكره في سياق الترخيص الثابت في المقام الأول وهو الاضطرار الى أحدهما المعيَّن ولا إشكال في كونه واقعياً، لأنَّ الحرمة الثابتة في الطرف المضطر إليه هي حرمة واقعية، وعلى تقدير ثبوتها فيه فهي ترتفع واقعاً بالاضطرار فيثبت الترخيص الواقعي.
لكن يبدو أنَّ الصحيح هو خلاف ذلك وأنَّ الترخيص الثابت في المقام هو الترخيص الظاهري، وإن كان الترخيص في المقام الأول ترخيصاً واقعياً بلا إشكال لعدم دخالة الجهل فيه، وأما في محل الكلام فالترخيص لم ينشأ من الاضطرار فقط بل الجهل بالحرام له دخل فيه، وعلى هذا الأساس يكون الترخيص ظاهرياً، وذلك بدليل أنه لو كان عاماً بالحرام ولنفترض أنه الإناء الأيمن لما جاز له ارتكابه بل يتعين عليه أن يرفع اضطراره بالطرف الآخر، فالجهل دخيل في جواز ارتكاب هذا الطرف.
والكلام في هذا الرأي يقع عن توجيه دعوى عدم المنجزية على كلا التقديرين - أي على الترخيص الواقعي والترخيص الظاهري -، وحاصل ما يمكن أن يقال في توجيه كلامه هو:
إنَّ الترخيص إذا كان واقعياً فهو ينافي حرمة الطرف الذي اختاره، فمع الترخيص لا يبقى علم اجمالي بالحرمة على كل تقدير، لأنه على أحد التقديرين لا حرمة واقعاً وإنما هناك شك في الحرمة على التقدير الثاني، فلا علم بالحرمة على كل تقدير فلا منجِّز للتكليف في الطرف الآخر.
وأما إذا كان الترخيص ظاهرياً فيمكن توجيه كلامه بأنه بناءً على أنَّ العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية يكون الترخيص في أحد الطرفين - ولو كان ظاهرياً - منافياً لهذا العلم الإجمالي الذي فرضنا أنه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية، فإذا ارتفع هذا الوجوب ارتفعت علته التامة - وهي العلم الإجمالي - ولا منجِّز للطرف الآخر.
والصحيح كما عرفتَ أنَّ الترخيص في المقام ظاهري وليس واقعياً، وأنَّ الصحيح هو أنَّ العلم الإجمالي ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية وإنما هو مقتضٍ لها، ومن الواضح أنَّ الترخيص الظاهري في أحد الطرفين لا ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال على ما ذُكر في بحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية، فما ذكره صاحب الكفاية - من أنَّ الاضطرار مطلقاً يمنع من العلم الإجمالي على كل تقدير لأنه يقتضي الترخيص في أحد الطرفين تخييراً وهو ينافي الحكم الواقعي على تقدير المصادفة ومعه لا علم بالحرمة على كل تقدير - غير تام لأنّ الترخيص في المقام ظاهري وهو لا ينافي العلم بالحرمة الفعلية.
الرأي الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي قده حيث وافق صاحب الكفاية في جانب وخالفه في جانب آخر، فوافقه في أنَّ الترخيص حتى لو كان ظاهرياً ينافي التكليف المعلوم بالإجمال، لأنه يبني على العلية التامة، وعليه لا يجوز الترخيص في المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالإجمال لكونه خُلف العلية التامة، فإذا ثبت الترخيص كان كاشفاً عن رفع اليد عن التكليف، ومع ارتفاع التكليف لا موجب لحرمة المخالفة القطعية فيجوز له ارتكاب الطرف الآخر.
وخالفه في النتيجة حيث ذهب الى المنجزية بلحاظ الطرف الآخر، وذلك لأنه يرى أنَّ المنافاة المتقدمة - بين الترخيص في أحد الطرفين وبين الحرمة الواقعية - لا تقتضي رفع اليد عن أصل التكليف رأساً كما هو ظاهر صاحب الكفاية بل رفع اليد اطلاق فعلية التكليف في كل طرف بالنسبة الى حال الاجتناب عن الآخر وعدمه، فيُـقيَّد هذا الاطلاق بحال الاجتناب عن الآخر، أي إخراج هذه الحالة من إطلاق فعلية التكليف، ومرجعه الى اختصاص التكليف الفعلي بحال عدم الاجتناب، أي بحال ارتكاب الآخر، أي أنَّ فعلية التكليف في كل طرف مشروطة بارتكاب الآخر ورفع الاضطرار به، لأنه بعد رفع الاضطرار بالآخر لا يبقى ما يوجب رفع التكليف بالأول، وعليه لا داعي لرفع اليد عن أصل فعلية التكليف بقول مطلق حتى يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التأثير رأساً!
والحاصل إننا بالتقييد المتقدم لا نرفع اليد عن أصل التكليف بل نرفع اليد عن إطلاقه لحالة اجتناب الآخر، فيختص التكليف لا محالة بحالة ارتكاب الآخر، فيثبت في كل ٍمن الطرفين تكليف مقيد بارتكاب الطرف الآخر، فيحرم عليه هذا الطرف إذا رفع اضطراره بالآخر، ويحرم عليه ذاك الطرف إذا رفع اضطراره بالأول، ومرجعه الى الترخيص في كل واحد منهما حتى إذا صادف الحرام الواقعي بشرط الاجتناب عن الآخر.
فالمحقق العراقي اتخذ موقفاً وسطاً بين الرأي الأول وبين الرأي الثالث الآتي، فالمحقق الخراساني ينفي التكليف رأساً والتزم بعدم المنجزية، وأصحاب الرأي الثالث يثبتون التكليف بقول مطلق، وأما المحقق العراقي فاختار رأياً بين الرأيين، وعليه إذا ارتكب المكلف أحد الطرفين ورفع اضطراره به فالتكليف يكون فعلياً في الطرف الآخر.