< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مسألة الضدّ ونـظـريّـةُ الـتـرتّـب

فَصْلٌ : مسألة الضدّ ونـظـريّـةُ الـتـرتّـب

ذكرنا أمس أنّ السؤال هنا هو : هل الأمْرُ بالشيء يقتضي النهيَ عن ضِدِّه أم لا ؟ ثم بالمناسبة نـتعرّض لنظريّة الترتّب وقلنا إنه لا بدّ من التـفصيل في المقام ، فالضدّ إمّا أن يكون ضدّاً عاماً وهو النقيض ، وإمّا أن يكون الضدُّ ضدّاً خاصّاً .

أمّا في النقيض فقد قلنا إنه إنْ وجبت الصلاةُ حَرُمَ نـقيضُها ـ أي ترْكُها ـ لكنْ بالحرمة العقليّة ، وهو ما يعبَّر عنه بالممنوعيّة[1] ، لا بالحرمة الشرعيّة المستقلّة .

فإن قيل : إنّ معنى (الصلاة واجبة) هو : (الصلاة واجبة) و (ترْكُها حرام) ،

قلنا : هذا خطأ واضح ، فإنه ـ إضافةً إلى عدم الدليل عليه ـ مخالف للعقل ، لأنّه يكفي تشريعٌ واحد في إبداء المعنى المراد ، وهو الوجوب البسيط ، الذي يعني الإلزامَ بالفعل ، وبالتالي يكون ترْكُ الإمتـثال ممنوعاً عقلاً ، ويستحقّ المكلّفُ العقابَ عليه ، ولذلك يكون من اللغو أن يتضمّن الحكمُ الإلزامي حكمَين اثنين كالحكمين المذكورَين .

على أنّ التروكات ـ كترْكِ الصلاة وتركِ شُرْبِ الخمر ـ لا يمكن أنْ تـتّـصف بالصفات الوجوديّة كالحرمة والوجوب لأنّ التروكات أعدامٌ ، ولا يصحّ وصفُ العدم بصفة وجوديّة ، فلا يصحّ أن تقول (ترك الصلاة أو ترك التـنـزّهِ أو ترْكُ الأكل أمور جميلة أو طويلة أو عريضة .. ) وذلك لأنها أعدام ، وإنما تقول (الصلاة واجبةٌ) و (التـنـزّهُ مُريحٌ) ...

ومن هنا تعرفُ أنه لا وجه لما قد يقال من أنّ " (الصلاة واجبة) هي عين (ترْكُها حرام) " ، فإنّ الوجوب غير الحرمة ملاكاً ، فالوجوب صفةٌ لما فيه مصلحة ملزمة ، وترْكُ الصلاةِ لا مفسدة فيها لأنّ التركَ أمْرٌ عدمي ، وإنما التركُ يفوّت مصلحةً ملزمةً، إضافةً لما قلناه قبل قليل من أنّ التركَ لا يتّصف بالحرمة .

إذن ممنوعيّة ترْكِ الصلاةِ عقليّة لا أكثر ، وحتى لو سألت نَـبِـيّاً من أنبـياء الله لقال لك ترْكُ الواجبِ ممنوعٌ عقلاً ، ولذلك يستحقّ الإنسانُ العقابَ من المولى تعالى على ترْكِ الصلاة ، لأنّ تركها يعني معصية الله تبارك وتعالى وعدمَ امتـثال أمره ، وشرب الخمر هو الحرام شرعاً ، وليس نقيضه ، أي ليس ( ترْك شرب الخمر ) واجباً شرعاً ، وإنما هو واجب عقلاً .

فإن قلتَ : كيف أجزت أن تنسب الممنوعيّة إلى ترك الصلاة ، ولم تجز ذلك في الحرمة ؟!

قلتُ : نعم ، قلنا ذلك لأنّ الأحكام العقليّة ليست أحكاماً شرعيّة ، فيجوز أن تَـنسِب الممنوعيّةَ إلى عدم الملكة ، فتقول مثلاً : ترك الصلاة من الكبائر ، وترك الصلاة ممنوع ، والعمى هو عدم البصر ، وعدم البصر هو مشكلة بدنـيّة ... فتكون بالتالي قد نسبتَ صفاتٍ وجوديّةً للأعدام . أمّا في الأحكام الشرعيّة فيجب أن يقال الصلاة واجبة ، ولا يقال ترْكُ الصلاةِ حرام ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة تـنشأ من الملاكات وتـنظر إليها ، وليست مجرّدَ حاكية مثل الأحكام العقليّة ، فإنّ العقل واسع التخيّل فيمكن له أن يتصوّر الأعدامَ المضافةَ ثم يَنسِبُ إليها الصفاتِ الوجوديّةَ ، أمّا الشرع فإنه ينظر إلى الأحكام من حيث ملاكاتِها الوجوديّة .

فإن قلتَ : كيف تقول إنّ الشرع لا يتصوّر الأعدامَ ثم يَحكم عليها ، مع أنه حَرّم علينا في الصيام الأكلَ والشرب وغيرَ ذلك، فقال ترْكُ الأكلِ والشرب واجبٌ في شهر رمضان ؟!

قلتُ : الواجب في الصيام هو الكفّ والإمساكُ عن الطعام بنيّة القربة كما قال الفقهاء ، والكفّ والإمساكُ وتوطينُ النفس على ترك المفطِّرات هي أمور وجوديّة ، لا عدمية ، فليس الكفّ كالترك الذي هو أمر عدمي ، ولذلك ليس الواجب هو مجرّد ترك الطعام والشراب ونحو ذلك ، وإنما هو كفُّ النفْسِ عن الطعام بنيّة القربة ، وهو أمْرٌ وجودي واضح .

ونـتيجةُ البحث هي أنه إذا وجب شيءٌ فلا يحرم نـقيضُه العام ، وإنما يكون ترْكُ الواجبِ ممنوعاً عقلاً ـ لا شرعاً ـ أي الملازمة عقليّة بين طلب الشيء وبين ممنوعيّة تركه ـ أي يُدْرِكُ العقلُ ممنوعيّةَ ذلك ـ ويستحقّ العقابَ على ترك الواجبِ كما كان يستحقّ العقابَ على فعل الحرام تماماً ، لأنّ كليهما معصيةٌ واحدة بنظر العقل .

وأمّا في الضدّ الخاصّ :

فإنْ وجَبَ الأهمُّ ـ كالإنـقاذ ـ فإنه لا تحرم أضدادُه ـ كالصلاة ـ وإنما يكون تحريم الضدّ ـ أي الصلاة ـ من باب لزوم تقديم الأهمّ ، لا من باب التحريم الذاتي للصلاة . مثال آخر : أنت تعلم حرمةَ البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، لقول الله تعالى ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَـيْعَ ) [2] ولكنْ تحريمُ البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ليس تحريماً للبـيع من باب مبغوضيّة نـتيجة المعاملة ـ كما كان الحال في المعاملة الربويّة وفي بـيع الخمر المبغوضَين ذاتاً لِبُغْضِ نـتيجتهما ـ وإنما هو تحريم تزاحمي فقط ، أي لأجل وجوب تقديم الأهمّ ـ وهي الصلاة ـ على البـيع فقط ، ولذلك إذا باع عند النداء لصلاة الجمعة فقد أجمع العلماءُ على صحّة البـيع ، وتمسّكوا لذلك بأكثر من دليل من قبـيل ( اَوفوا بالعقود ) و ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَـيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ )[3] ولا وجه لبطلان البـيع . نعم ، يقع البائع في الحرمة التكليفيّة بلا شكّ ، لا أنّ بَـيعَه يكون باطلاً والثمنُ سحتاً . وكذا الأمْرُ في الصلاة ـ التي هي ضدّ خاصّ للإنـقاذ ـ فلو تَرَكَ المكلّفُ الإنـقاذَ وصَـلّى ، فإنّ صلاته لا يكون منهيّاً عنها بالذات ، وإنما لو فرضنا النهيَ عنها ـ وليس منهياً عنها في الواقع كما سيأتي ـ فهو نهي تزاحمي ليس إلاّ ، ولذلك لو ترك الإنـقاذَ وصلّى لكانت صلاته صحيحةً بلا شكّ ، وذلك لعدم النهي عنها ذاتاً .

أمّا أنْ يقول شخصٌ بأنّ (ترْك الصلاةِ واجبٌ مقدّمةً للإنـقاذ ، إذن فالصلاةُ منهيٌّ عنها) ، فهذا اشتباه واضح ، فإنّ ترْك الصلاةِ ـ مع فرض عدم إرادة الإنـقاذ ـ لا يكون مقدّمة للإنـقاذ ، ولا يصحّ أن يكون مانعاً وجزءَ العلّة للإنـقاذ ، فقد يَتركُ الإنـقاذَ ويَترك الصلاةَ أيضاً ويذهبُ ويلعب أو ينام ! إذن ترْكُ الصلاةِ ليس مقدّمة للإنـقاذ . على أنّ التركَ أمْرٌ عدميّ فلا يمكن أن يكون مقدّمة للإنـقاذ التي يجب أن تكون ـ أي المقدّمة ـ أمْراً وجودياً ، فإنّ العدم هو لا شيء ، فكيف يكون مقدّمة أو جزءً للعلّة ؟! فلو أراد أن يُنقِذَ ، فجاءه مانعٌ ، فلَمْ يَستطِـعْ على الإنـقاذ ، فهذا المانع هو أمر وجودي .

وبتعبـير آخر : مع عدم وجود المقتضي للإنـقاذ لا يصحّ أن يقال كانت الصلاة مانعاً عن الإنـقاذ ، ومع عدم وجود النار لا يصحّ عقلاً أن يقال كان وجود الحديدة مانعاً عن احتراق الورقة .

 


[1] تميـيزاً له عن الحرمة الشرعيّة، فإذا قلنا ممنوع أي عقلاً، وإذا قلنا حرام أي شرعاً .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo