< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تحديد المقدّمة الواجبة وقصد التوصّل

وصلنا في بحثـِنا أمس إلى السؤال التالي :

متى تُوصَفُ المقدّمةُ بالوجوب العقلي ؟ وقلنا إنه لا فائدة من هذا السؤال أصلاً ، وذلك لأنّ السؤالَ ح يَستبطنُ أنّ كونها مقدّمة هو أمْرٌ مفروضٌ ولا بحث فيه ، وإنما البحث في شرط اتّصافها بالوجوب العقلي ، فنقول : إذا فرضتم هذا الفرض فهو يعني أنكم فرضتم السؤالَ بعد تحقّق الغاية ، فما الفائدة العمليّة إذَنْ في معرفة اتّصاف المقدّمة ـ بعد تحقّق غايتها ـ بالوجوب العقلي أو عدم اتّصافها ؟! سواءً دخل الشخصُ إلى أرض الغير بغير إذنه ـ أي غصباً ـ بنيّة الإنقاذ أو لا ، ما الفائدة ؟ فإنه لا يزيد عن كون اتّصافها بالوجوب بنحو الإخبار لا بنحو الإنشاء ، إذن لا فائدة عمليّة من معرفة اتّصافها بالوجوب أو بعدمه ، وهذا أشبه شيء بإرادة معرفة لون ناقة نبـي الله صالح (عليه السلام) !! فأنت تعلم أنّ الأحكام العقليّة تـنجيزيّة ـ أي فاعلة ومحرّكة ـ ، فبَعدَ تحقّقِ الغايةِ ، أيُّ تـنجيزٍ يوجد لحكم العقل بوجوبها ؟! نعم ينبغي أن يُسأل عن الثواب والعقاب ، وقد عرفت أنهما متوقّفان على النيّة .

بـيان ذلك : لو دخل شخصٌ أرضَ الغير من دون إذنه ولغير إنقاذ الغريق ـ سواءً كان يعلم بوجود غريق ولا يريد إنقاذَه أو لا يَعلم بوجوده أصلاً ـ فدخوله هذا ليس واجباً عليه بحكم العقل ـ أي على مستوى التـنجيز ـ حتى وإن تبدّل رأيُه حين وصل إلى الغريق فأنقذه ، وإنما كان ـ على مستوى التـنجيز ـ محرّماً عليه عقلاً ، بسبب سوء نِـيّتـِه ، ويستحقّ العقاب على هذه المقدّمة لأنه كان عاصياً ، بمعنى أنّ العقلاء يقولون له لا تدخلْ ، فإنه يَحْرُمُ عليك دخولُ أرض الغَيرِ إلاّ إذا كنت تـقصد الإنقاذ فإنه ح يجب عليك الدخول . ومن هنا تعرف أنّ قصد التوصّل دخيل ـ إضافةً إلى القدرة ـ في إيجاب المقدّمة أو في تحريمها ، لا في أصل كونها مقدّمة ، فلو اغتسل من دون قصد غُسل الجنابة مثلاً ، لم يقع الغسلُ الواجبُ ، ولو دَفَعَ شخصٌ مديونٌ لزيد مئةَ دينار لزيد من دون قصد أداء الدَين لم يحتسب له من الدين ، ولذلك نقول يجب قصْدُ الوجهِ ليقع كما قُصِد . وكذا لو شرب الخمرَ وهو يجهل أنه خمر لم يحتسب حراماً عند الله ، لأنه لم يَقصد شربَ الخمر ، وأغلب الظنّ أنّ قصد الشيخ الأنصاري هو هذا. ومن هنا تَعرف وجوبَ القصد ليُكتَبَ عند الله وعند الناس الفعلُ كما قُصِدَ ، وتَعرف أيضاً عدمَ صحّة ما قاله بعضُ الناس من كون المقدّمة واجبة مطلقاً سواءً قصد التوصّل أو لم يقصد.

وقد تسأل عمّن دَخَلَ أرضَ الغير من دون إذن صاحبها ليتـنزّه فيها ويأكلَ ويشرب ، لكن صادف قبل دخوله إلى هذه الأرض أن عَلِمَ بوجود غريق يَغرَقُ في بِرْكَتها ، فتأكّدت نيّته بالدخول ، ففي هكذا حالة لا شكّ في اتّصاف نيّتَيه هتين بصفتين ، فَـنـِيّةُ دخولِها للتـنزّه قبـيحة ونيّتُه على الإنقاذ حسنة ، وأمّا نفس الدخول فلا يتّصف بصفتين متضادّتين ، وإنما يكون ـ بعد الكسر والإنكسار بين ملاك الدخول إلى الأرض المغصوبة وبين ملاك الإنقاذ ـ واجباً لا غير ، لكن إذا أنقذ الغريقَ فإنه يجب عليه الخروجُ فوراً ، وإلاّ فإنه من حين انـتهاء مهمّة إنقاذ الغريق سوف يقع في الحرام .

ثمرةُ مسألة الوجوب الغَيري

لا ثمرة لهذا البحث أصلاً ، وقد ذَكَرَ بعضُ الناس بعضَ الثمرات لكنها ليست ثمرات لمسألتـنا ، ولعلّ أحسنها هي الثمرة المدّعاة التالية :

المعروف والمشهور جداً هو لزوم الإتيان بغسل الميّت وتكفينه وسائرِ أمور تجهيزه مجّاناً ، فإنه من الحقوق المجّانية للميّت على الأحياء ، فهل يجوز أخذ الأجرة على مقدّمات ذلك ـ بعدما قلنا بالوجوب العقلي للمقدّمات ـ أم لا ؟ الجواب : لا يَـبْعُدُ جوازُ ذلك ، إنما في المقدّمات البعيدة ، لا في المقدّمات التي يتوقّف عليها الواجب ، وذلك لأنّ الأمر بشيء يعني الأمرَ بمقدّمته التي يتوقّف عليها أداء الواجب .

أقول : هذه ليست ثمرة للبحث ، فإنه على كلّ الأقوال لا يجوز أخذ الأجرة على المقدّمات الواجبة التي يتوقّف عليها الواجب ، كجلب الماء للتغسيل وجلب إناء ليوضع فيه الماء وجلب الكفن للتكفين ... وأمّا التي لا يتوقّف عليها الواجب فيجوز أخذ الأجرة بالإجماع ، على أنّه إذا كان قصده من فعله أخذ الأجرة لانتفى إمكان قصد القربة ، فإنّ تغسيل الميّت ودفنه والصلاة عليه واجبات كفائيّة ، فهي من قبـيل الفرائض اليوميّة تماماً التي لا يجوز أخذ الأجرة عليها ، فتكون من قبـيل أكل مال الناس بالباطل ، وليست من قبيل قضاء الصلاة عن الآخرين لكي لا يجب على المستأجَر أن يأتي بها ، وإنْ أخَذَ الأجرةَ عليها يكون من قبـيل الداعي إلى الداعي .

وقيل من ثمرات هذه المسألة هو أنه لو فرضنا أنّ شخصاً نذر أن يفعل واجباً ، فعلَى القول بالوجوب الشرعي للمقدّمة يكفي امتـثال المقدّمة ، وعلى القول بعدم وجوبها الشرعي لا يكـتفى بها.

أقول : النذرُ يَتْبَعُ القصدَ بلا شكّ ولا خلاف ، فإن كان يقصد في نذره الوجوبَ الشرعي قلنا له : لا يكفي امتـثال المقدّمة، لأنّ وجوبها عقلي لا شرعي ، وإن كان يقصد مطلقَ الوجوب ولو العقلي قلنا له : لا يتحقّق إسمُ المقدّمة الواجبة حتى يتحقّق نفسُ الواجب ، وعليه فإذا تحقّق الواجب النفسي الشرعي فالاَولَى أن يقال له أنت حقّقتَ الواجبَ النفسي الشرعي ، ولا داعي لأن تقول حقّقتُ الواجب الغيري ، وإن كان يقصد الواجب النفسي ـ كما هو المنصرَف إليه عند إطلاقه ـ فح لا تكفي مقدّمة الواجب .

وقيل : ومن ثمرات بحث الواجب الغيري حصولُ الفسق بتركه للمقدّمات الكثيرة إذا كان للواجب مقدّمات كثيرة ، وهذا من باب الإصرار .

والجواب : هو أنه يكفي في ترك الواجب تكويناً ترْكُ مقدّمةٍ واحدة واقعة في سلسلة علّة تحقق الواجب ، فتكون معصيةً واحدة عقلاً ، ولن يحصل الإصرار ، كما لو تَرَكَ فِعْلَ جوازِ السفر، أو تَرَكَ أخْذَ الإذن في دخول الحجاز من السلطات الرسمية، أو ترك السير إلى الحجّ.

مقدّمة المستحبّ

كما قلنا في مقدّمة الواجب من وجوب المقدّمة وجوباً عقلياً لا شرعياً ، نقول هنا أيضاً : إستحباب الفعل يقتضي استحباب مقدّمته عقلاً ، ولا شكّ هنا ولا خلاف في استحقاق الثواب على مقدّمات المستحبّ ، كما لو تجشّم المؤمنُ عَناءَ السفر إلى العمرة أو إلى المشاهد المشرّفة .

مقدّمة الحرام

تـنقسم مقدّمةُ الحرام إلى قسمين :

الأوّل هو ما يقع الحرام عنه مباشرةً وبلا فاصلة ، كالدفعة الأخيرة التي يترتّب عليها إلقاءُ الشخصِ من شاهق ، وكإلقاء ورقةٍ في النار ، فإنهما بمثابة العلّة التامّة للوقوع وللإحراق ، ولذلك يكون القسم الأوّل هو الجزء الأخير من العلّة التامّة لحصول المعلول ، ويسمّون هذه المقدّمة بـ المقدّمة التوليديّة ، وهي حرام عقلاً وبالتسالم ، وحرمتها نفسيّة بلا شكّ .

والثاني هو ما يمكن معه التراجعُ فيه عن الحرام ، كالخطوات الأولى إلى الحرام ، فإنه قد يمشي الشخصُ نِصفَ المسافة ثم يرجع عن نـِيّته السيئة ولا يُكْمِلُ طريقَه إلى الحرام . هذه المقدّمة إذا كانت مع قصد ارتكاب الحرام مبغوضة طالما هو يمشي نحو الحرام ، ويستحقّ الإنسانُ عليها العقابَ ، إنما من باب التجرّي ـ لا من باب الحرمة الفعلية ـ فإذا أكمل طريقَه حتى ألقى الشخصَ من الشاهق فح قد فَعَلَ الحرام النفسي وهو المقدّمة التوليديّة ، وهو الدفعة الأخيرة التي تَوَلّد عنها الإلقاءُ .

وبتعبـيرٍ آخَر : مَن أخَذَ مسدّساً ليقتل شخصاً ظلماً فهو يستحقّ العقابَ عقلاً على أخذه للمسدّس ، ولكن من باب التجرّي على سوء نـِيّته ، فإذا ضغط على الزناد فهو الحرام النفسي لأنه يتولّدُ منه القتلُ ـ كما قال المحقّق النائيني[1] ـ ، ومن الخطأ أن يقال( إنّ ضغْطه على الزناد هو حرام غيري ، وإنّ الحرام الفعلي هو دخول الرصاصة في بدن المظلوم) فهذا خطأ ، لأنّ سبب التحريم النفسي وإن كان هو الإجتـناب عن القتل الظلمي ، ولكن فرقٌ بين موضوع التكليف ـ والذي يقع تحت اختيار الإنسان ـ وبين السبب والغاية من التكليف . ولذلك لا يعقل أن يقال "إنّ الضغطة على الزناد ليست محرّمةً ذاتاً ، وإنما الحرام هو خصوص ما يترتّب عليه" .

مثال آخر : شِرْبُ الخمرِ حرام نفسياً ، قرآناً وسُـنّةً وبالتسالم ، مع أنه لا مشكلة مع نفس شرب الخمر ، وإنما سببُ التحريم هو السكر العارض على الإنسان ، ومع ذلك حُرّم نفسُ شرب الخمر . وكذا الغِيـبة ، فإنها حرام نفسياً ، ولكن السبب والغاية من هذا التحريم هي الخدشة بالمؤمن في غَيـبته ، والسرقة حرام نفسياً بالإجماع ، ولكنّ السبب والغايةَ من هذا التحريم هو أخْذُ أموالِ الناس ظلماً وعدواناً . وكذا الأمر في كلّ التحريمات ، وكلّ الواجبات كالصلاة والصيام .

ولذلك نقول إنّ الضغط على الزناد هو الحرام النفسي ـ أي في مرحلة التكليف ـ وذلك لأنه بعد الضغط على الزناد وخروج الرصاصة باتّجاه قلبِ المظلوم لا يمكن التحكّم بها ، فإنها ستولّد القتلَ لا محالة ، ولذلك قال علماؤنا إنّ موضوع التحريم النفسي هي المقدّمة التوليديّة ، وهي التي توجب استحقاقَ العقاب ، مع أنّ المبغوض النفسي ليس هو نفسَ الضغط على الزناد وإنما هو القتل الظلمي .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo