< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الشرط المـتأخّر

الشرط المـتأخّر

كان الكلام في مقدّمة الواجب كالسير إلى الحجّ والوضوء ، وفي قيود الواجب كـتـقيّد الصلاة بالطهارة ، ولاحظتَ أنّ مقدّمة الواجب تكون متقدّمةً زماناً على نفس الواجب ، بل يجب أن تكون متقدّمة دائماً ، أمّا قيوده ـ أي شروطه ـ فيجب أن تكون مقارنةً دائماً للواجب زماناً ـ كالجزء تماماً ـ ولا يمكن أن تكون متـقدّمة لأنها ح لا تكون شرطاً ـ أي داخلاً في المشروط ـ . نَعَم ، لأجل إيقاع الواجبِ المقيّد يجب ـ عقلاً ـ تهيئـةُ مقدّماتِه قبل الإتيان به ليقع الواجبُ مقيّداً بالقيود الشرعيّة ، ولكن لا يُطلَقُ عليها ـ قبل الإتيان بالواجب ـ إسمُ (قَـيـد) ، وإنما يطلق عليها إسم (مقدّمة) ، فإذا كان يأتي بالمركّب بشروطه ، فإنه ح يطلق على هذه الشروط إسم قيود ، فـتـقول (مِن قيود الصلاةِ أو من شروطها : كونُها عن طهارةٍ واستـقبالٍ) ولا يصحّ أن تـقول (من مقدّمات الصلاةِ الإستـقبالُ) ، نعم يصحّ أن تقول (من مقدّمات الصلاةِ الوضوءُ ، ولك أن تقول أيضاً من مقدّمات الصلاةِ الطهارةُ) وذلك بلحاظ تقدّم الوضوء والطهارة على الصلاة زماناً . وعليه فيصحّ أن تُطْلِقَ على الوضوء والطهارة تعبـيرَ (مـقـدّمـة) ـ بلحاظ تـقدّمهما على الصلاة زماناً ـ . فأنت إذا أردتَ أن تذكّي الشاةَ مثلاً فعليك أوّلاً أن توجّه مقاديمَها نحو القبلة ثم تأتي بسكين وتَفري أوداجَها الأربعة وتذكر اسمَ اللهِ تعالى عليها أثناء فَرْيِ الأوداج ، هذه الأعمال قبل التذكية بدقيقة أو بساعة أو بـيوم لا يصحّ أن يطلق عليها تعبـير شروط التذكية ، إنما تقول هذه مقدّمات التذكية ، لكن أثناء التذكية يطلق عليها إسم شروط . فمثلاً : لو وجّهت الشاةَ قبل تذكيتها بساعة أو بـيـوم فلا يصحّ إطلاق تعبـير شرط على هذا التوجيه . وبدقّة أكثر : الشرط هو وقوع هذا العمل عن استـقبال ، أمّا فري الأوداج والتسمية فهي بما أنها أفعال فهي إذن أجزاء . مثالٌ آخر : إحتراقُ الورقة سبـبُه وعلّتُه هو وجود نار ـ وهو المقتضي ـ وكون الورقة قريـبةً من النار ـ وهو الشرط ـ وعدمُ المانع ـ أي كعدم وجود حديدة مثلاً بين النار والورقة ـ .

هذا ، وقد لاحَظَ العلماءُ أنّ بعضَ الأفعال النادرة قد تكون مقيَّدةً أحياناً بقيدٍ متأخّر زماناً على وجود نفس الفعلِ ، كـتـقيّد صيام المرأة المستحاضة بالغُسل بعد انـتهاء صيامها ـ على ما ادُّعِيَ ـ وكـتـقيّد البـيع الفضولي الصحيح بالإجازة اللاحقة ، فقالوا: إذن مقدّماتُ الواجب إمّا متقدّمة وإمّا مقارنة وإمّا متأخّرة ، ومثّلوا بالمتأخّرة بما ذكرنا ، ولهذا السبب جعلوا هذا البحث في هذا الموضع ـ أي بعد مقدّمة الواجب ـ . وبتعبـيرٍ آخر : قالوا : لأنّ قيود الواجب قد تكون مقارنةً للواجب ـ كما هو الغالب جداً ـ وقد تكون متأخّرة كما في أمثلة هذه المسألة جعلوا مسألة (الشرط المـتـأخّر) في هذا الموضع .

وهذا خطأ ، والصحيح هو أنّ المقدّمة التي ادّعَوا أنها متأخّرة هي ـ على فرض صحة هذا الإدّعاء ـ قيد متأخّر ، مقارِنٌ للفعل، إذ لا يصدق على ما هو داخل الواجب ـ كجزئه مثلاً ـ أنه مقدّمة . لا بل الشرط المتأخّر ـ وإن كان ممكناً ثبوتاً ـ إلاّ أنه غير موجود في الشرع ، فهو بحث في فرضٍ خيالي ، على أنه لو فرضنا وجودَه في الشرع فإنه لا يصحّ تسميتُـه بالمقدّمة المتأخّرة ، ولذلك لا يصحّ جعْلُ هذا البحثِ بعد مسألة مقدّمة الواجب بذريعة أنّ الشرط المتأخّر هو مقدّمة متأخّرة ، فإنّ نفس هذه التسمية غلط واضح ، وإنما يجب تسميتُـه بـ الشرط المتأخّر ، لأنه سوف يكون قيداً في الواجب ، وإنما كان محلّه متأخّراً فقط . إضافةً إلى أنّ تعريف المقدّمة عند العلماء هو ما كان وجود ذي المقدّمة متوقّفاً عليه ـ كالسير إلى الحجّ ـ فهو يتّصف بالوجوب الغيري، والشرطُ المتأخّر بما أنه قيدٌ في الواجب فهو يتّـصف بالوجوب النفسي ـ كالجزء من هذه الناحية ـ .

على كلٍّ ، تساءل العلماء : كيف يتأخّر الشرطُ ـ أي جزء العلّة ـ ويتقدّم المشروط ـ أي المعلول ـ والمفروضُ أن تكون العِلّة ـ بأجزائها وشرائطها ـ هي المتـقدّمة رتبةً والمقارنةُ زماناً مع المعلول ، فكيف يمكن اشتراط صيام المستحاضة السابق بلحوقه بالغُسل بعد انصرام الصيام وانصرامِ وقتِه ؟! أم كيف يصحّ النقل والإنـتـقال من الزمان السابق ـ الذي هو المعلول ـ مع كون إجازة المالك للبـيع الفضولي ـ وهي جزء العلّة ـ لاحِـقة ؟!

بـيانُ ذلك : لا شكّ أنك تعلمُ أنّ الكون على الطهارة بلحاظ تقدّمها زماناً على الواجب ـ كالصلاة والطواف ـ هي مقدّمة الواجب ، وأنّ الكونَ على الطهارة أثـناء الصلاة هو شرط الصلاة وقيدُها ، وهو شرط مقارنٌ زماناً للواجب ، وقيودُ الصلاة والصيام والحجّ أن تقع في وقتها المعروف وبالشروط المعروفة وهي قيود مقارِنة ، كأنْ يُشترَطَ في صلاة الظهر ـ مثلاً ـ أن تقع بين الزوال وقُبَـيل غروب الشمس بمقدار إيقاع صلاة العصر ، كما ويشترط فيها استقبال القبلة والستر ... وقيدُ الصيام أن يقع من طلوع الفجر إلى سقوط قرص الشمس عن جبال البلد ...

هذا ، ولكن هناك كلام بين العلماء في إمكان أن تكون بعضُ شروط الفعل متأخّرةً زماناً عن نفس الفعل ، فقد روَى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبـيه عن (عبد الرحمن) ابن أبي نجران (الكوفي روى عن الرضا (عليه السلام) وكان ثقة ثقة ، له كتب كثيرة) عن عاصم بن حميد (الكوفي ثـقة عين صدوق روى عن أبي عبد الله (عليه السلام)) عن محمد بن قيس (البجَلي الكوفي مات سنة 151 هـ ق ثقة عين له كتاب قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) وله أصل ، روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام)) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ( قَضَى أميرُ المؤمنين صلوات الله عليه في وليدةٍ باعها ابنُ سَيِّدِها وأبوه غائبٌ ، فاستولَدَها الذي اشتراها ، فولدَتْ منه غلاماً ، ثم جاء سيِّدُها الأولُ ، فخاصم سيدَها الآخرَ فقال : وليدتي ، باعها ابني بغير إذني) ، فقال (عليه السلام) : (الحكمُ أن يأخذ وليدتَه وابنَها) ، فناشده الذي اشتراها ، فقال (عليه السلام) له : (خُذْ ابنَه الذي باعك الوليدةَ حتى يُنْفِذَ لك البـيعَ) ، فلَمّا أخذه قال له أبوه : (أرسِلْ إبني !) ، قال : (لا واللهِ ، لا أرسِلُ إليك ابنَك حتى ترسلَ ابني ، فلمّا رأى ذلك سَيِّدُ الوليدةِ أجاز بَـيعَ ابنِه )[1] وهي رواية صحيحة السند ، فقال العلماء إنّ الإمام الباقر (عليه السلام) يعلّمنا في هذه الرواية أنّه يمكن إجازة بـيع الفضولي بلحاظ الزمان الأوّل ، أي بحيث تترتّب الآثارُ من الزمان الأوّل ، وذلك بتصريح الإمام (عليه السلام) ( أجاز بَـيعَ ابنِه ) أي أجاز البـيع السابق بما له من آثار سابقة ومِن تملُّكِ ابن الوليدة . وهذا غير غريب حتى على المستوى العقلائي ، فإنّ النقل والإنـتـقال هي أمور اعتباريّة ، فيمكن للمالك الأوّل أن ينوي ـ بإجازته ـ النقلَ والإنـتقال من حين جريان البـيع الفضولي ، لأنّ البـيع والنقل والإنـتـقال هي من الاُمور الإعتباريّة ـ وليست من الأمور التكوينيّة ليجب تقدّمُ العلّةِ فيها على المعلول رتبةً ومقارنـتُها زماناً ـ والأمورُ الإعتباريّة سهلةُ المؤونة . وبتعبـير آخر : هنا تـقدَّمَ ظاهراً ـ أي بنظر البسطاء ـ المعلولُ ـ الذي هو حكم وضعي ـ على العِلّة ـ التي هي الإجازة ـ مع أنّ المـتـقدّم هنا هو في الواقع وعند جميع العقلاء هو العلّة ، والمتأخّر هو المعلول ، بل الأمر واضح جداً بدليل تصريح الإمام الباقر (عليه السلام) .

ورغم وضوح الأمْرِ عَبَّرَ بعضُ الناس عن حصول النقل من حين حصول البـيع الفضولي بـ الكشف ، وهذا خطأ واضح ، فإنّ الحاصل بالإجازة هو ( الـنـَّقْلُ ) من حين الإجازة ، وهذا أمر عقلي قطعي واضح عند كل الناس ، ذلك لأنّ الإجازة هي العلّة في حصول البـيع ، ويجب أن تكون العلّةُ قبل المعلول ـ أي قبل النقل والإنـتقال ـ ، لكنْ وقتُ النقلِ بآثاره هو بحسب نيّة المـتبايعين ، وهنا في الرواية هو من حين وقوع البـيع الفضولي بدليل أنّ المالك الثاني كان يريد ولدَه الطفلَ ويقاتل من أجله ولذلك أيضاً قال الإمام الباقر (عليه السلام) ( أجاز بَـيعَ ابنِه ) ، فإذن القول الحقّ هو النقل من حين الإجازة، لكنْ وقتُ النقلِ والإنتقال هو من حين وقوع البـيع الفضولي . ولذلك قبل إجازة المالك الأصلي كان الطفل ملكاً للمالك الأصلي ، وبعد الإجازة صار مُلْكاً لأبـيه ـ أي المالك الثاني ـ . ولذلك فليس عندنا هنا في الرواية شيءٌ إسمُه شرط متأخّر ، وإنما كانت العلّة ـ وهي الإجازة ـ سابقةً للمعلول ـ وهو حصول البـيع ـ ، ولذلك كان مِنَ الخطأ التمثيلُ بهذه الرواية في مسألة الشرط المـتأخّر .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo