< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إجزاء الأوامر الظاهرية

وعلى مستوى الأصول العمليّة نسأل نفسَ الأسئلة السابقة :

بلحاظ قاعدة الطهارة : هل تَـفهم الإجزاءَ مطلقاً من قولِ الإمام الصادق (عليه السلام) : ( كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك )[1] ؟ بمعنى هل تفهم إرادة إفادةِ الإجزاء عن الواقع مطلقاً حتى بعد تبـيّن النجاسة واقعاً ـ طبعاً مع غضّ النظر عن الصلاة ، لأنه ورد في الصلاة دليلٌ خاصّ ، وإنما كلامنا مطلقاً ـ ؟ ألا تفهم من موثّقة عمّار هذه نفسَ ما تفهمه من خبر حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليهما السلام) ( ما اُبالي أبَولٌ أصابني أو ماءٌ إذا لم أعلم )[2] ؟

بلحاظ قاعدة الحِلّ : هل تَـفهم الإجزاءَ ممّا رواه في الفقيه بإسناده الصحيح عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فـتـدعه )[3] صحيحة السند ، وممّا رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : ( كلُّ شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فـتـدعه مِن قِبَلِ نفسِك ، وذلك مثلُ الثوب يكون عليك قد اشتريتَه وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلَّه حُرٌّ قد باع نفسَه أو خُدِعَ فبِـيعَ أو قُهِرَ ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياءُ كلُّها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك أو تقوم به البـيِّنة )[4] موثّقة السند .

وبلحاظ قاعدة الإستـصحاب : هل تـفهم الإجزاءَ عن الواقع مطلقاً من صحيحة زرارة المشهورة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له الرجل ينام وهو على وضوء ، أتُوجِبُ الخفْقَةُ والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال : ( يا زرارة ، قد تنام العَين ولا ينام القلب والاُذُن ، فإذا نامت العَين والاُذُن والقلب وجب الوضوء ) ، قلت : فإنْ حُرِّكَ على جنبه شيءٌ ولم يَعلم به ؟ قال : ( لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيئ من ذلك أمْرٌ بَـيِّنٌ ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تـنقضِ اليقينَ أبداً بالشك ، وإنما تنقضه بـيقين آخر )[5] صحيحة السند؟

فأقول : الجوابُ على الكلّ واحد ، وهو عدم وضوح التـنزيل مطلقاً ، والقدر المتيقّن ، بل هو المظنون جداً أيضاً ، هو الإقتصار على حالة الجهل بالواقع .

فلو أخبرك ثِـقَـةٌ أنّ الماء هو لزيد فتوضّأتَ به ، ثم عَلِمْتَ أنه لعَمْروٍ وأنت تعلم أنه غير راضٍ بتصرّفك بمائه ، ففي وضوئك شكّ وإشكال ، لأنّ المبغوض ذاتاً يصعب أن يكون عبادةً ، وتنزيل مؤدّى الأمارةِ منزلة الواقع ، وتنزيلُ الإحتمال منزلة العلم لا ينفعك هنا شيئاً .

وكذا لو بنيتَ على بقاء رضاه بالإستصحاب ثم تبـيّن أنه صار غيرَ راض بالتصرّف بمائه ، فإنه لم يتبـيّن أنّ قاعدة الإستصحاب تفيد الإجزاءَ في هكذا حالة .

وكذا لو وجدتَ ماءً في أرضٍ فدخلتَ فيها بانياً على قاعدة الحِلِّـيَّة ، ثم تبـيّن لك عدمُ حِلِّـيّة استعمالك لهذا الماء وأنه بمثابة الغصب ، فإنّ ( كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فـتـدعه ) يصعب أن تكون ناظرةً إلى حالة ما بعد العلم بالمخالفة للواقع ، فنرجع إلى أصالة عدم الإجزاء وإلى أصالة الإشتغال .

وكذا لو شككت في نجاسة الماء فبنيتَ على طهارته ، فتوضّأتَ به وصلّيتَ ، ثم تبـيّن لك نجاستُه ، فإنّ عليك أن تطهّر ما تنجّس مِن بدنِك وأن تعيد وضوءك وصلاتَك ، و ( كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ) لا تـنفعك هنا بالإجماع ، ممّا يعني عدمَ الإجزاء ، فقد قال العلماء بأنّ قولَه (عليه السلام) ( فإذا علمتَ فقد قَذُرَ ، وما لم تعلم فليس عليك ) يفيد أنّ قاعدة الطهارة قاعدةٌ تكليفية بحتة ـ ولا تفيد الطهارةَ الوضعيّة في حال الجهل بحيث تكون طاهرةً وضْعاً كالطهارة الواقعية تماماً ـ وذلك بدليل أنّ العرف يفهمون منها معنى : فإذا علمت فرتّبْ آثارَ النجاسة ، فهي تفيد حُكماً تكليفيّاً ، لا وضْعِيّاً . بل حتى مع الشكّ والتردّد بين التنزيل كحكم تكليفي والتنزيل كحكم وضعي ، القدرُ المتيقّنُ هو التـنزيل تكليفاً فقط ، أي بلحاظ الوظيفة العمليّة فقط . وبتعبير آخر : العرفُ لا يفهم المعنى التالي : الشيء ـ في حال الجهل بنجاسته ـ هو طاهر ، فإذا علمت بنجاسته فقد نجس ، وإنما يفهم : وظيفتُك التكليفيّة أن تعتبره طاهراً ، لكنه يـبقَى على النجاسة واقعاً ، فإذا علمت بنجاسته فاعمل على هذا الأساس . والذي أضاع بعضَهم هو اعتقادهم بأنّ شرط الصلاة هو الطهارة الظاهريّة ، فاعتقدوا أنّ العلّة في التوسعة هي قاعدة الطهارة ولم يعلموا أنّ التوسعة حصلت في شرط الصلاة .

وهكذا هو الحال في كلّ التـنـزيلات الظاهريّة ، فإنّ العرف يفهم منها التنزيل تكليفاً فقط ، لا وضْعاً ، ولذلك لو مسحتَ على الجبيرة لاستصحاب بقاء العذر ، ثم قال لك الطبيبُ ضمن وقت الفريضة (إنه كان يمكن لك نزْعُها بلا ضرر) فإنّ الأحوط وجوباً إعادة الوضوء ، وذلك لأصالة الإشتغال ، ولعدم وضوح الإجزاء في هكذا حالة .

كوضوئهم ـ وضوء التقيّة ـ ثم تبـيّن أنهم من شيعة محمّد وآل محمّد ، فإنّ الأقوى أنّ عليك أن تعيد وضوءَك ، لعدم وضوح الإجزاء في هكذا حالة ، خاصّةً إذا كنت قد مسحت على الخِفّ ، والمرجعيّةُ هنا هي لأصالة الإشتغال .

ومِثلُه ما لو قالت لك البَـيّنةُ : هذا الشيءُ الفلاني هو لِزَيدٍ ، ثم بَانَ أنه ليس له ، فإنّ مسلك الطريقية لا يجعل الشيءَ الفلاني لزيدٍ ، خاصّةً بَعد تبـيُّنِ الحقيقةِ .

والسرُّ في كلّ هذا شيءٌ واحد وهو أنّ العرف تـنصرف أذهانُهم من الأدلّة الشرعيّة إلى المعاني المقبولة عقلائياً ، أي يفهمون كلام الشارع المقدّس بطريقة عقلائيّة ، ولذلك يفهمون التعبّدَ بالأحكام الظاهريّة في خصوص مورد الجهل ، أمّا إذا عَلِموا بالواقع فإنهم يَتركون فوراً الأحكامَ الظاهريّة .

هذا ، ولكن في مسألة الـتـقليد الأمر مختلف تماماً ، فلو انـتـقل المقلّدُ من مرجع يقول بالقصر إلى مرجع آخر يقول بالتمام ، فإنّه ليس على المقلِّد أن يعيد صلاته .

دليلنا على هذا :

لننظر أوّلاً إلى مرسلة أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في الإحتجاج عن أبي محمد العسكري (عليه السلام) ـ إلى أن قال : ـ ( وقال رجلٌ للصادق (عليه السلام) : إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم ، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم ) ـ إلى أن قال : ـ فقال (عليه السلام) : ( بين عوامنا وعوام اليهود فَرقٌ مِن جهة وتسويةٌ من جهة ، أما من حيث الإستواء فإنَّ الله ذَمَّ عوامَّنا بتقليدهم علماءَهم كما ذم عوامهم ، وأما من حيث افترقوا فإنَّ عوام اليهود كانوا قد عَرَفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام واضطروا بقلوبهم إلى أنَّ مَن فَعَلَ ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، فلذلك ذمهم ، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسقَ الظاهرَ والعصبـية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمَن قَلَّدَ مِثْلَ هؤلاء فهو مثلُ اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأمّا مَن كان مِنَ الفقهاءِ صائـناً لنفسه ، حافظاً لدِينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمْرِ مولاه ، فللعوام أن يُقَلِّدُوه ، وذلك لا يكون إلا بعضَ فقهاءِ الشيعة لا كلهم ، فإنّ مَن رَكِبَ من القبايح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً ولا كرامة ، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك ، لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم ، وآخرون يتعمدون الكذب علينا ... ) ، وأورده العسكري (عليه السلام) في تفسيره.

فأقول : لو انـتـقل العامّي من مرجع إلى آخر أو توفّي المرجعُ السابق الذي كان يقول بعدم وجوب تجفيف مواضع المسح في الوضوء ، ثم جاء مِن بعدِهِ مرجعٌ آخر يقول بوجوب التجفيف ، أو أنّ الأوّل كان يقول بوجوب القصر والثاني يقول بوجوب التمام ، أو أنّ الأوّل كان يقول بجواز الذبح بغير الحديد ، والثاني يشترط ذلك ، وكان المقلِّّدُ قد ذبح الشاةَ مثلاً .. فلا يـبعد صحّة أن يقال للمرجع الثاني : أنت بنظر العوام المقلّدين مثلُ السابق ، كلكم في الإجتهاد من الدرجة الأولى ، وكلكم حجّةٌ عليهم ، والمفروض أنّنا لا ندري مَن هو الأعلمُ بـينكم ، ولا ندري مَن المصيب منكم للواقع ومَن هو الأقرب منكم للواقع ، فلا دليل عندنا على لزوم إعادة ما فعله العوامُّ طبقاً لفتاوى مرجعهم السابق ، وإلاّ فكلّما جاء مرجع أعادوا وضوءهم وغسلهم وصلاتهم وصيامهم ـ كما لو كان يرمس رأسه بالماء وهو صائم ـ وحجّهم وزواجهم وطلاقهم ـ كما لو عقد أو طلّق بالفارسيّة مثلاً ـ وو ... !! هذا بعيد التصديق في شريعة الباري عزّ وجلّ غاية البعد ـ كي لا نـقول هو مَضْحَكَةٌ للعالَمين ، بل هو مضحكةٌ للصغار فضلاً عن الكبار ولَصِرْنا مَسْخَرَةً للناس أجمعين ـ والمجرى هو لقاعدة البراءة عن التكاليف الزائدة المشكوكة ، والإجزاء عقلاً .. وإلاّ لولا ذلك لوجبت إعادة الصلوات وغيرها كلّما مات مرجعٌ وانـتـقل الناس من مرجع إلى آخر ، وهذا غير محتمل عقلائياً . نعم ، لو كان المرجع الثاني معصوماً ، يعلم الغيب ، ولا يُحتمَلُ فيه الخطأ ، لاتّجه القولُ بالإعادة ، لكن الثاني مثل الأوّل ، والمفروض أنّ كليهما من طبقة واحدة في العلم ، فلا وجه لإعادة شيء ممّا فعل المقلّدون قطعاً ، طبعاً مع احتمال صحّة استـنباط الأوّل علميّاً وعلى مستوى الإجتهاد بعدما كان قوله حجّة شرعاً قطعاً ، فلا وجه لزوال الحجيّة عن فتاواه بعد موته بحيث كلّما مات مرجع أعدنا عباداتنا ومعاملاتنا ، بل الإعادة بحاجة إلى دليل بعدما كان المكلّفُ متمسّكاً بالحجّة التي أمرنا الله بالتمسّك بها في حال الغَيـبة . ولا شكّ أنك تذكر مصحّحة إسحاق بن يعقوب المشهورة ( وأمّا الحوادثُ الواقعةُ فارجعوا فيها إلى رواة حديثِـنا فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّةُ اللهِ عليهم )[6] .

طبعاً مع الأخذ بِعَين الإعتبار معلوميّة عدم وجوب الإحتياط شرعاً ، وإلاّ لوجب الإحتياط ابتداءً بين المراجع لإدراك الواقع .

نعم ، لو تغيّر رأيُ المجتهد ، فلا شكّ في أنه يجب عليه نفسِه أن يعيد صلواته وسائر عباداته ومعاملاته ، وذلك لعلمه بأنه أخطأ في استـنباطه الأوّل ، مَثَلُهُ كمَثَلِ الثـقةِ الذي اعترف بخطَـئِـه وانسحب من كلامه السابق ، ففي كلتا الحالتين لا وجه لبقاء الحجيّة في كلامهما السابق .

 


[1] رواها في التهذيب بإسناده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمّار الساباطي، وهي موثـقة السند .
[2] رواها في الفقيه مرسلةً، ورواها في التهذيـبين بإسناده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي جعفر ( أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله) عن أبـيه ( شيخ القميين ووجه الأشاعرة ) عن حفص بن غياث ( قال الشيخ في الفهرست له كتاب معتمد، وقال في العدّة عملت الطائفةُ بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافُه) عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليه السلام)، فهي بالتالي مصحّحة السند.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo