< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري

إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع

لا شكّ في صحّة مسلك الطريقيّة على ما ذكرنا عدّة مرّات كما هو واضح من آية النبأ والروايات ، ولكن هذا لا يعني إجزاءَ الأمارة عن الواقع مع تبـيُّنِ الخطأ ، وإنما مفادُ تـنزيل الأمارة منزلة الواقع ومفادُ تـنزيلِ الإحتمال منزلة العلم هو حجيّة الآثار العقليّة ولزومُ إقامة مؤدّى الأمارةِ مقام القطع الموضوعي طريقيّاً كان أو صِفَـتِـيّاً ، أمّا في غير ذلك فلا يمكن القول بدلالة حجيّة الأمارة على الإجزاء .

توضيح ذلك : لو قال لنا الثقة : "الواجبُ عليكم الآن هي صلاة الجمعة" ، ثم تَبَـيّن لنا خطؤه ، فإنه يجب علينا إعادةُ الصلاة ظهراً بلا شكّ وبالإجماع ، وذلك لعدم وجود دليل على الإجزاء في هكذا حالة ، لا بل المورد هو مجرى لأصالة الإشتغال العقليّة ، إذ أنّ كلّ العقلاء سوف يقولون لك : أنت لم تأتِ بالواجب الواقعي ، وقد تَوَهّم الثقةُ ، ولا دليل على تنزيل خبر الثقة مقامَ الواقع حتى مع تَبَـيُّنِ خطَـئِه ، فعليك أن تأتيَ بالواجب الواقعي بعد عدم وجود دليل على سقوط الواجب الواقعي . وبتعبير آخر : لا ملازمة بين القول بمسلك الطريقيّة وبين الإجزاء ، أو قُلْ : لا تَدِلّ آيةُ النبأ وغيرُها من الروايات على الإجزاء ، فإنّ آية النبأ تقول : خبرُ الثقةِ هو عِلمٌ ، نعم ، ولكن هل نظرُ الآيةِ حتى إلى ما بعد تبـيُّنِ خطأ قولِ الثقة ؟! هنا محطُّ رحالِنا وهنا كلامُ رجالِنا . فقد تساءل العلماءُ فقالوا : هل تقوم الأمارةُ الحجّةُ مقام الواقع مطلقاً أي حتى رغم تبـيُّنِ خطئها أو لا ؟

الجواب : لا ندري ، ولذلك نقتصر على القدر المتيقّن ، وهو حالة بقاء الجهل .

وعلى مستوى الأصول العمليّة نسأل نفسَ الأسئلة السابقة :

بلحاظ قاعدة الطهارة : هل تَـفهم الإجزاءَ مطلقاً من قولِ الإمام الصادق (عليه السلام) : ( كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك )[1] ؟ بمعنى هل تفهم إرادة إفادةِ الإجزاء عن الواقع مطلقاً حتى بعد تبـيّن النجاسة واقعاً ـ طبعاً مع غضّ النظر عن الصلاة ، لأنه ورد في الصلاة دليلٌ خاصّ ، وإنما كلامنا مطلقاً ـ ؟ ألا تفهم من موثّقة عمّار هذه نفسَ ما تفهمه من خبر حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن عليّ(عليهما السلام) ( ما اُبالي أبَولٌ أصابني أو ماءٌ إذا لم أعلم )[2] ؟

بلحاظ قاعدة الحِلّ : هل تَـفهم الإجزاءَ ممّا رواه في الفقيه بإسناده الصحيح عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فـتـدعه )[3] صحيحة السند ، وممّا رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : ( كلُّ شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فـتـدعه مِن قِبَلِ نفسِك ، وذلك مثلُ الثوب يكون عليك قد اشتريتَه وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلَّه حُرٌّ قد باع نفسَه أو خُدِعَ فبِـيعَ أو قُهِرَ ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياءُ كلُّها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك أو تقوم به البـيِّنة )[4] موثّقة السند .

وبلحاظ قاعدة الإستـصحاب : هل تـفهم الإجزاءَ عن الواقع مطلقاً من صحيحة زرارة المشهورة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له الرجل ينام وهو على وضوء ، أتُوجِبُ الخفْقَةُ والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال : ( يا زرارة ، قد تنام العَين ولا ينام القلب والاُذُن ، فإذا نامت العَين والاُذُن والقلب وجب الوضوء ) ، قلت : فإنْ حُرِّكَ على جنبه شيءٌ ولم يَعلم به ؟ قال : ( لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيئ من ذلك أمْرٌ بَـيِّنٌ ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تـنقضِ اليقينَ أبداً بالشك ، وإنما تنقضه بـيقين آخر )[5] صحيحة السند ؟

فأقول : الجوابُ على الكلّ واحد ، وهو عدم وضوح التـنزيل مطلقاً ، والقدر المتيقّن ، بل هو المظنون جداً أيضاً ، هو الإقتصار على حالة الجهل بالواقع .

فلو أخبرك ثِـقَـةٌ أنّ الماء هو لزيد فتوضّأتَ به ، ثم عَلِمْتَ أنه لعَمْروٍ وأنت تعلم أنه غير راضٍ بتصرّفك بمائه ، ففي وضوئك شكّ وإشكال ، لأنّ المبغوض ذاتاً يصعب أن يكون عبادةً ، وتنزيل مؤدّى الأمارةِ منزلة الواقع ، وتنزيلُ الإحتمال منزلة العلم لا ينفعك هنا شيئاً .

وكذا لو بنيتَ على بقاء رضاه بالإستصحاب ثم تبـيّن أنه صار غيرَ راض بالتصرّف بمائه ، فإنه لم يتبـيّن أنّ قاعدة الإستصحاب تفيد الإجزاءَ في هكذا حالة .

وكذا لو وجدتَ ماءً في أرضٍ فدخلتَ فيها بانياً على قاعدة الحِلِّـيَّة ، ثم تبـيّن لك عدمُ حِلِّـيّة استعمالك لهذا الماء وأنه بمثابة الغصب ، فإنّ ( كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فـتـدعه ) يصعب أن تكون ناظرةً إلى حالة ما بعد العلم بالمخالفة للواقع ، فنرجع إلى أصالة عدم الإجزاء وإلى أصالة الإشتغال .

وكذا لو شككت في نجاسة الماء فبنيتَ على طهارته ، فتوضّأتَ به وصلّيتَ ، ثم تبـيّن لك نجاستُه ، فإنّ عليك أن تطهّر ما تنجّس مِن بدنِك وأن تعيد وضوءك وصلاتَك ، و ( كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ) لا تـنفعك هنا بالإجماع ، ممّا يعني عدمَ الإجزاء ، فقد قال العلماء بأنّ قولَه (عليه السلام) ( فإذا علمتَ فقد قَذُرَ ، وما لم تعلم فليس عليك ) يفيد أنّ قاعدة الطهارة قاعدةٌ تكليفية بحتة ـ ولا تفيد الطهارةَ الوضعيّة في حال الجهل بحيث تكون طاهرةً وضعاً كالطهارة الواقعية تماماً ـ وذلك بدليل أنّ العرف يفهمون منها معنى : فإذا علمت فرتّبْ آثارَ النجاسة ، فهي تفيد حُكماً تكليفيّاً ، لا وضْعِيّاً . بل حتى مع الشكّ والتردّد بين التنزيل كحكم تكليفي والتنزيل كحكم وضعي ، القدرُ المتيقّنُ هو التـنزيل تكليفاً فقط ، أي بلحاظ الوظيفة العمليّة فقط .


[1] رواها في التهذيب بإسناده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمّار الساباطي، وهي موثـقة السند .
[2] رواها في الفقيه مرسلةً، ورواها في التهذيـبين بإسناده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي جعفر ( أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله) عن أبـيه ( شيخ القميين ووجه الأشاعرة ) عن حفص بن غياث ( قال الشيخ في الفهرست له كتاب معتمد، وقال في العدّة "عملت الطائفةُ بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافُه" ) عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليهما السلام)، فهي بالتالي مصحّحة السند.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo