< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الأوامر الإرشاديّة

الأمر السادس : الأوامر الإرشاديّة

لا شكّ في أنّ صيغة الأمر تدلّ على الطلب حتى ولو كانت في سياق الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة . فمثلاً : قول المولى تعالى[إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..][1] ظاهره أنه أمرٌ بالوضوء لأجل الصلاة ، وواقعه هو بيان اشتراط الصلاة بالطهارة ، وكذا الحال فيما ورد من صحيحة عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( اِغسلْ ثوبَك من أبوال ما لا يؤكل لحمه )[2] ، وكذا في قولك للجزّار (إستقبلِ القِبلةَ بذبـيحتك) ، فإنّ كلّ مسلم يستـفيد منها إشتراطَ التوجّه بالذبـيحة ـ أثـناء ذبْحِها ـ إلى القبلة لتـتذكّى ويحلَّ أكلُها . هذا الأمرُ بتوجيه الذبـيحة إلى القبلة هو أيضاً طلب التوجيه إن أراد الشخصُ أن تكون ذبـيحتُه مذكّاة ، ممّا يعني أنّ صيغة الأمر ـ حتى ولو كانت في سياق الإرشاد ـ لم تخرج عن أنها استُعملت في الطلب لكن كان استعمالُها بداعي الإرشاد إلى الشرطيّة مثلاً . ولذلك نقول بأنّ استعمال صيغة الأمر في الأوامر الإرشاديّة هو استعمال حقيقي لا مجازي .

على كلٍّ ، كَثُرَ الكلامُ في بـيان التفرقة بين الأوامر النفسيّة والأوامر الإرشادية ، فقالوا في التـفرقة بينهما ما يلي :

كلّ أوامر الإطاعة هي أوامر إرشاديّة ، كقولِ المولى عزوجل [ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ] [3] فإنه إرشادٌ إلى حُكْمِ العقل بوجوب إطاعة الله وإطاعة رسوله ، وإلاّ لو كان الأمر مولويّاً لأتى الإشكال التالي : ما هو الدليل على وجوب إطاعة الله وإطاعة رسوله في هذه الآية ؟ فإن قلتَ : هذه الآية ، لَعادَ الإشكالُ ثانياً : وما الدليل على وجوب إطاعة المولى تعالى في هذه الآية ؟ فإن قلتَ : هذه الآية ! لعاد الإشكال ثالثاً ومن دون نهاية .

وكذا كلّ الآيات والروايات الواردة للإرشاد إلى العقاب مع مخالفة المولى تعالى ، كقوله عزوجل [فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ] [4] فإنّ العقل يحكم باستحقاق العقاب مع المخالفة ، كما ويحكم بوجوب اتّـقاء النار ، لذلك نقول : هكذا كلمات هي إرشادٌ إلى أحكام العقل ، لا أنها أوامر ونواهي نفسيّة .

ومثلها أيضاً الآياتُ والروايات التي تحثّ على السعي للقرب إلى الله وكسب الدرجات العليا ونيل الثوابات أو التي تُـنَبّه على وجوب دفع الضرر الأخروي المنـتهي إلى العقاب ...

وبكلمة مختصرة : هذه الأوامر والنواهي مسوقةٌ لبـيان حقيقة عقليّة واضحة ومعلومة عند كلّ الناس ، فهي تذكيريّة فقط ، أي تُـنَبّه الناس إلى لزوم العمل بأحكام العقل وإلى مدى خطورة ما يُقْدِمُون عليه .

الأوامر والنواهي إن كانت إلزاميّة فهي نفسيّة ، وذلك كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر، ولا يمكن أن تكون إرشاديّة بذريعة أنها إرشاد له إلى حُسْنِ الصلاة جدّاً بحيث يستحقّ العبد العقاب على تركها لشدّة أهميّتها ، فهذا خطأ محض ، لأنّ لنا أن نقول ح : لو كان الأمر بالصلاة والنهي عن شرب الخمر إرشاديّاً إلى شدّة مصلحة هذا وشدّة مفسدة ذاك على الإنسان ، فللإنسان أن يقول ح إذن أنا لا أريد هذه النصائح ولا أريد أن أنفع نفسي ، ولذلك قال العلماء بأنّ التكاليف الإلزاميّة ـ أي الوجوب والحرمة ـ هي أحكامٌ نفسيّة لا إرشاديّة .

وإن لم تكن إلزاميّة فهي إرشاديّة للعبد ـ لا إلزاميّة له ـ وذلك كما في طلب التـنفّل وقراءة القرآن والكون على الطهارة فإنها إرشاد إلى كون هذه العبادات مقرّبة إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وكاستحباب السواك فإنه يرشدنا إلى استحباب التـنظُّف وإزالة الروائح الكريهة ، وأمّا استحباب غسل الجمعة فلا يـبعد أن يكون له فائدتان معنويّة وماديّة ، وكذا الأمر فيما لو كانت الأوامر والنواهي للإرشاد إلى الشرطيّة أو المانعيّة ونحوهما كالأمْرِ بتطهير الثياب والضحك في الصلاة . ولذلك يمكن لك أن تقول بأنّ الأوامر الإرشاديّة هي أوامر غيريّة ، بمعنى أنّ النظر فيها هو الإرشاد إلى أمر آخر غير المأمور به ، لا بمعنى أنها كمقدّمة الواجب ـ أي لا بمعنى أنها كالسير إلى الحجّ ـ .

لا يـبعد أن يكون الحكمُ النفسي ـ أي بالوجوب والحرمة ـ لمصلحة عائدة إلى الآمِر تعالى من باب ما ورد في الحديث الشريف ( كنتُ كنزاً مَخْفِيّاً ، فأحبَـبْتُ أن اُعرَفَ ، فخلقتُ الخلقَ لكي اُعرَفَ )[5] ، أو لمصلحة المجتمع ، أي أنّ المولى جلّ وعلا هو يريد الصلاة والصيام وغير ذلك من عبادات ، وهو يريد تقليل الطلاقات بين الأزواج ، فألزم بوجود رجلين عادلين وغير ذلك ، وفي البيع ألزم بمعرفة المبيع والثمن وبكون المبيع قابلاً عقلائيّاً للبيع والشراء ... وفي الإجارة أوجب تعيين مدّة الإجارة والأجرة ... ، كلّ ذلك لأجل مصلحة المجتمع . وأمّا في الإرشاد فهو لمصلحة عائدة إلى العبد المأمور .

والسؤال المهم في هذا البحث هو : إننا بعدما عرفنا أنّ صيغة الأمر ـ سواءً كانت نفسيّة أو إرشاديّة ـ تفيد الطلب ، ويُحتمَلُ أن يكون الطلب نفسيّاً وإرشاديّاً ، فمع التردّد بـينهما ، ما هو الأصلُ ؟

لا شكّ أنّ نفس استعمال صيغة الأمْرِ تـنصرف عند العرف إلى خصوص الطلب النفسي ، هذا الإنصرافُ ليس مستـندُه الغلبةَ ، لأنّا لو فرضنا أنه لم يُخلَق بعدُ أيُّ إنسان ، ولم يَطلُبِ المولى هذا الطلبَ بعدُ ، فأمَرَ حينـئذ به ، وكان هذا الطلبُ أوّلَ طلبٍ صادرٍ منه تعالى ، فح لا شكّ أنه يظهر من نفس صيغة الطلب خصوصَ الطلب النفسي ، هذا أوّلاً .

ثانياً : إنّ الإرشاديّة بحاجةٍ إلى قرينة واضحة ، والإرشاديّةُ غريـبة عن الفهم العرفي ، فأنت إذا أمرك المولى تعالى بالصلاة فلم تمتـثل بذريعة أنك احتملتَ أنه يريد الصلاة لمصلحتك ، فأنت ـ بنظر كلّ العقلاء ـ تستحقّ العقاب .

وثالثاً : إنّ العقلاء يرَون أنّ ظاهر حال المتكلّم من الطلب ـ مع عدم وجود أيّ قرينة ـ هو الطلب النفسي المنصرف إلى خصوص معنى الإلزام أي هو يريد ذلك ، مع غضّ النظر عن مصلحة العبد .

بعد هذا البحث لا بأس أن نشير بأنّ العلماء اختلفوا في تسميّة ما يقابل الأوامر الإرشاديّة ، فمنهم مَن عَبَّرَ بتعبير الأوامر النفسيّة ، فالأمر بالوضوء كما في آية الوضوء هو أمر غيري يرشدنا إلى الشرطيّة ، والأمر بالصلاة هو أمر نفسيّ لا يرشدنا إلى شيء آخر ، ومنهم مَن عبَّرَ بالأوامر المولويّة ـ كالسيد الخوئي ـ معتبراً أنّ الأوامر الإرشاديّة هي إرشاد إلى حكم العقل لا أكثر ، أي أنّ حكم المولى فيها لا تزيد عن حكم العقل ، فهي إذن محضُ نصح وتـنبـيه وإخبار لا مولويّة فيها ، وأمّا الأوامر المولويّة فهي أوامر مُلْزِمَة ، فهي إذن مخترَعة مِن قِبَلِ الباري سبحانه وتعالى ، ومنهم من عبّر بالأوامر الشرعيّة .

 


[5] آداب نماز، فارسي، تحت عنوان : تـنبـيه اِشراقي واِشراقٌ عرفاني، ص288 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo