< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الصحيح والأعَمّ

المسألة الخامسة

وبتعبير صحيح : الموضوعات العرفيّة والموضوعات الشرعيّة

قد يجعل اللهُ تعالى موضوعَ الحكم هو الماهيّة العرفيّة ، وقد يجعل موضوعَ الحكم هو الماهيّة الشرعيّة ، ففي الحالة الأولى يجب تحصيل ما يصدق عليه الماهيّةُ بنظر العرف ، وفي الحالة الثانية يجب تحصيل الماهيّة المرسومة في الشرع .

مثال الموضوع العرفي قولُه تعالى ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَـيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ، وَأَحَلَّ اللهُ البَـيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ، فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانْـتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ، وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) ﴾[1] فإنّ الله تبارك وتعالى يريد أن يقول بأنّ العقد الربوي ليس بـيعاً ، وإنما البيع الصحيح هو البيع العقلائي ، فما يصدق عليه البيع العقلائي هو البيع . وبتعبير آخر : يريد اللهُ تعالى أن يقول للمقرِضِين بالربا بأنّ تشبـيه الربا بالبَـيع هو خطأ ، فالعقد الربوي ليس بَـيعاً ، وإنما هو تشريع فاسدٌ لغصْبِ أموال الناس ولأكْلِ أموال الناس بالباطل ، وإنما البـيعُ هو المبادلة المقبولة عند العقلاء ، هذا هو الذي يصدق عليه البيعُ العقلائي وهو الحلال .

وعليه فإذا شككنا في اشتراط الموالاة أو الترتيب أو غيرِهما في ماهيّة العقد ـ بَـيعاً كان العقدُ أو نكاحاً أو غيرَهما ـ فعلينا أن نرجع إلى العرف ، فإن كانوا يشترطون الموالاةَ ـ مثلاً ـ في ماهيّة العقدِ فَـبِـه ، ولو فرضنا حصولَ الشكّ والتردّدِ عندهم فح نرجع إلى أصالة الإشتغال ـ لا إلى الإطلاق اللفظي أو الإطلاق المقامي ـ وذلك لأنّ الله تبارك وتعالى قال بأنّ البيع الحلال هو خصوص البيع العرفي ، ولذلك نرجع إلى أصالة الإشتغال لتحصيل ماهيّة البيع وعقد الزواج ـ لا إلى الإطلاقات ـ ، وهذه هي الثمرة في بحث ( الصحيح والأعمّ ) .

مثال آخر : لو قلتَ (إشتريتُ سيّارةً) فقولُك (سيّارة) أعمُّ مِن كونِها جديدةً ـ أي من الشركة ـ أو مستعمَلة ، فكلاهما يطلق عليهما إسم (سيّارة) طالما يصدق عليها بنظر العرف أنها سيّارة. وبتعبير آخر : لا شكّ أنّ الواضع حينما وَضَعَ الألفاظَ إنما وضعها لما تصدق عليه الماهيّةُ عرفاً حتى ولو كانت معيوبةً ، طالما كانت الماهيّةُ متحقّقة عرفاً ، وهذا أمْرٌ يعرفه كلّ الناس .

إذن لو شككنا في اشتراط البلوغ أو الماضويّة في البَـيع مثلاً أو العربـيّة أو الموالاة أو الترتيب فهل يمكن التمسّكُ بالإطلاق المقامي أو اللفظي لـ (البَـيْع) الوارد في الآية القرآنية الكريمة ؟ الجواب : لا ، وإنما يجب إجراء أصالة الإشتغال لتحصيل العلم بحصول البـيع العرفي .

أمّا إن كان هناك انصرافٌ ـ في الخارج ـ فهو المتّـبَع ، لكنه خارج عن بحث (الصحيح والأعمّ) ، فلو قلتَ (إشتريتُ دفتراً وقلماً) فالمعنى المتبادَرُ هو الجديدان قطعاً ، فإنه لم يُعهَد ـ بحسب العادة ـ أن يشتريَ الشخصُ دفتراً مستعمَلاً أو قلماً مستعمَلاً . وأمّا لو قلتَ لولدك أعطني دفتر الحسابات وقَلَماً لأتاك بهما مع أنهما مستعمَلان ، وهذا كاشف عن أنّ كلمتَي (دفتر) و (قلم) موضوعتان للدفتر والقلم حتى المعيوبين طالما كان يصدق عليهما ـ بنظر العُرْف ـ أنهما دفتر وقلم .

ومثال الموضوع الشرعي : حينما يَطلب منّا الشارعُ المقدّس الصلاةَ أو الصيام ونحو ذلك من العبادات والمخترَعات الشرعيّة ، فهو إنما يريد منّا خصوصَ الصحيحِ منها ، سواءً قلنا بوضع (الصلاة) بوضع جديد أم لا ، فهذا لا يفيدنا في شيء ، وذلك لأنّ المطلوب هي الصلاة الصحيحة شرعاً والوضوءُ الصحيح شرعاً والصيام الصحيح شرعاً ... فلو شككنا في وجوب جزء عاشر فح نُجري الإطلاقَ المقامي لنـنفيه ، لا الإطلاق اللفظي ـ لأنه ليس الأمْرُ من قبـيل (العالِم) في قول المولى (أكرمِ العالِمَ) حيث نـتمسّك بإطلاق العالِم لنَـنْفيَ شرطيّةَ كونه عادلاً أو هاشميّاً مثلاً وبالتالي يجب علينا إكرامُ كلّ عالِم ـ ولا أصالةَ الإشتغال ـ لأنه ليس من قبـيل (عالماً) في قول المولى (أكرِمْ عالماً) حتى يجب تحصيلُ العِلْمِ بكون المكْرَمِ عالماً حتى تبرأ الذمّة ـ ، أمّا في (الصلاة) مثلاً فالمطلوب هو تحصيل هذا المركّب ، فإن لم يـُبَـيّن لنا المولى تعالى وجوبَ الجزء العاشر فهذا يعني أنه لا يُوجِبُه ..

فإنْ سألتَ وقلتَ : ما رأيُك إن قلنا بأنّ كلمة (صلاة) وُضِعَتْ في عهد الإسلام ـ أي بعد الوضع اللغوي القديم ـ بأوضاع كثيرة أخرى ، وهي للركعتين المعروفتين لصلاة الصبح والأربعة المعروفة لصلاة الظهر وللثلاثة المعروفة للمغرب وركعتين من جلوس لصلاة الوتيرة، وركعة واحدة للوتر ، وركعتين للجمعة وو ... مع عدم هجْرِ الوضْعِ اللغوي الجاهلي السابق ، وعليه فإنْ شككنا في كون الصلاة الفلانية مكوّنةً من تسعة أجزاء أو من عشرة ، فليس لنا إلاّ أن نُجري أصالةَ الإشتغال العقليّة ـ لنقول بأنّ علينا أنْ نعمل على أساس أنها عشرة أجزاء ـ وذلك لنَضْمَنَ أننا حقّقنا الماهيّةَ المطلوبة ، فما الجواب ؟

فأقول : إحتمالُ تحقّقِ وضْعٍ جديد للماهيّات المستحدَثة أو لا ، لا يهمّنا ولا يفيدنا ، مع أنه مستبعَدٌ جدّاً ولا حاجة عند الواضعِ إليه . نعم يَـبقى مسألةُ الثمرة المذكورة فنقول : لا شكّ أن المطلوب شرعاً هو أجزاء الصلاة بشرائطها ، وليس المطلوب شرعاً هو تحقيق عنوانها الذهني ـ إضافةً إلى أجزائها وشرائطها ـ فنحن نستبعد جدّاً أن يكون العنوان الذهني مطلوباً أيضاً ، على أنه لا دليل عليه أصلاً ، لا بل نحن مطمئنّون أنّ المكلّفَ لا يكلَّفُ شرعاً وعقلاً إلاّ بما وَصَلَه فقط من أجزاء وشرائط ، بدليل قوله تعالى ﴿ اَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [2] ، والزائدُ المشكوكُ تجري فيه أصالةُ البراءة وقاعدتُها بلا شكّ ، أي عقلاً وشرعاً ... وسوف نُعيد الكلامَ مرّةً أُخرى في مسألة (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين) .

نعم ، لو فرضنا أنّ شخصاً نَذَرَ أن يصلّي صلاة الليل وشَكّ في دخالة بعض الأجزاء فيها فإنْ قلّد فيها أو اجتهد فَـبِـها وإلاّ يجب عليه أن يعمل بأصالة الإشتغال ليحصّل العِلْمَ بأنه قد أتى بها .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo