< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الحقيقة الشرعيّة

جرى الكلامُ في بعض الألفاظ التي جاءت في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله مثل كلمات ( نجاسة ) و ( قُرء ) ، فقالوا هل قولُ اللهِ تعالى [ نَجَسٌ ] ـ في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) ﴾[1] ـ المرادُ منه النجس المادّي ـ وهو المتبادَر إليه في زماننا ـ أم المراد منه المعنى اللغوي أي المعنى الجاهلي الذي هو النجس المعنوي الذي كان معروفاً عند أهل الجاهليّة ؟ لا شكّ أنّ أهل الجاهليّة ـ بحسب روايات مستفيضة ـ كانوا يستعملون كلمة (نَجَس) في النجاسة المعنويّة ، فقد روى المحدّث المجلسي في البحار قولَه (ص) ( إذا دخلتم في الصيام فطهّروا نفوسَكم من كلّ دنس ونجَس ... ) وقوله (ص) ( إنّ الله خلقني وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين من قبل أن يخلق الدنيا ... ولا يصيـبُنا نجَسُ الشركِ ولا سفاحُ الكفر ... ) وقوله(ص) ( إنه لا أحد مِن محبّي عليّ (عليه السلام) نظّفَ قلبَه من قذر الغش والدغل والغلّ ونجاسة الذنوب إلاّ لكان أطهرَ وأفضل من الملائكة ) وقوله (ص)) فأزِلْ نجاسةَ ذنوبِك بالتضرّع والخشوع والتهجّد والإستغفار بالأسحار ( وغيرها . لكنْ عند نزول هذه الآية القرآنية الكريمة ـ التي هي السنة التاسعة للهجرة ـ هل كانت لفظة [نَجَس] قد انتقلت إلى المعنى الشرعي الماديّ أم لا ـ بَعد عِلْمِنا بعدم هجران معناها الجاهلي اللغوي ـ ؟ لا شكّ أنها كانت منتقلةً إلى المعنى الشرعي في زمان نزول هذه الآية لكون النجاسة محلّ ابتلاء يومي ، أي أنّه كان قد مرّ على الإسلام 22 سنة ، إذن فقد استُعمِلت ألفاظُ طهارة ونجاسة حتى زمان نزول هذه الآية ملايين المرّات ، ولذلك نقول إنه كان قد حصل وضْعٌ جديدٌ لكلمة [نجس] وهي النجاسة الماديّة عند نزول هذه الآية الكريمة .

إذن هل استُعمِلت هذه الكلمةُ ـ في هذه الآية الكريمة ـ بمعناها الشرعي أم بمعناها اللغوي الجاهلي ؟ طبعاً بَعد عِلْمِنا بعدم هجران المعنى اللغوي الجاهلي .

اُفرض أننا قلنا لا ندري بالمعنى المراد ـ أي مع غضّ النظر عن سياق الآية ـ فح هل يصحّ أن ندّعي استعمالَ كلمةِ [نَجَس] بالمعنى اللغوي الجاهلي أو هل يصحّ أن ندّعي أنها استُعمِلت بالمعنى الشرعي المستحدَث ؟

طبعاً لا ترجيح بلا مرجّح ، ولذلك يجب أن تقول بإجمال المعنى ، فترجع ح إلى قاعدة الطهارة بلا شكّ ، وتقتصر في النجاسة على المعنويّة فقط .

ثم لو فرضنا أننا شككنا في بقاء معنى كلمةٍ استعملها القرآن الكريم أو رسول الله ـ مثلاً ـ على معناها القديم ، فهل يصحّ استصحابُ بقائها على المعنى الجاهلي القديم أم لا ؟

الجواب هو أنه لا يمكن لنا أن نستصحب بقاءَها على معناها اللُغَوي الجاهلي ، وذلك لأنّ العقلاء لا يستصحبون المعنى الجاهلي القديم ، وأمّا على صعيد قاعدة الإستصحاب الشرعي فلأنك إنِ استصحبت بقاءها على معناها الجاهلي فسوف يترتّب على ذلك ادّعاءُ أنّ المراد الإستعمالي من الآية الكريمة أو المراد الإستعمالي لرسول الله (ص) هو المعنى القديم ، ثم سوف يترتّب على ذلك ادّعاءُ أنّ المراد الجدّي من الآية الكريمة أو المراد الجدّي لرسول الله (ص) هو المعنى القديم ، ثم سوف تُرَتِّبُ على ذلك ادّعاءَ إرادةِ إفادة الحكم الفلاني المترتّب على معرفة المراد الجدّي ، وهذه الإدّعاءات هي وسائطُ عقليّة ، وليست آثاراً شرعيَّةً ، لذلك سيكون هذا الإستصحاب أصلاً مثبتاً .

بتوضيح أكثر : أنت حينما تستصحبُ عدمَ طروء النجاسة على الماء ـ مثلاً ـ فإنك تلقائيّاً تستصحب بقاءَ طهارةِ الماء ، ثم يترتّب على طهارة الماءِ جوازُ شربه مباشرةً ، أمّا لو استصحبتَ بقاءَ المعنى الجاهلي إلى زمان نزول الآية الكريمة السابقة فلن يَترتّبَ على هذا نجاسةُ الكافر أو جوازُ أكله أو شربه ، وإنما سوف تقول : بناءً على استصحاب بقاء المعنى اللغوي سوف يَترتّب أنّ المراد الإستعمالي من النجاسة هو النجاسة المعنويّة ، ثم ـ بعد التعمّل في قرائن الحال وفي سائر الأدلّة ـ سوف تدّعي أنّ المراد الجدّي من النجاسة هو النجاسة المعنويّة ، ثم يترتّب على ادّعاء إرادة النجاسة المعنويّةِ نجاسةُ المشركين .

ولذلك يجب عليك ـ بعد جهلك بمعنى (نَجَس) ـ أن ترجع إلى الأصول العمليّة وهي الطهارة الماديّة ، وتقتصر في النجاسة على المعنويّة فقط[2] .

لكن هنا ملاحظة وهي أنّ المولى عزّ وجلّ لا يمكن مع وجود عدّة معاني لكلمة أن يُجْمِلَ الآية ، فهذا مخالف لغرض المولى ومخالفٌ لقوله تعالى بأنه أنزل القرآن هدى للناس ونور وبيّنات من الهدى والفرقان وأنه تبيان لكّل شيء ، ولذلك نستبعد وجود مثال لحديثنا السابق .

أمّا كلمات (الصلاة) و (الصيام) و (الزكاة) و (الحجّ) و (البيع) و (الإجارة) و (النكاح) و (الطلاق) ونحوها فلا شكّ أنها كانت مستعملةً في أيام الجاهليّة بدليل أنّ الله تعالى أنزل هذا القرآن باللغة العربية ، فإذن هو استعملها في المعاني التي يعرفونها ، نعم لا مشكلة في التصرّف ببعض هذه المركّبات . فحينما كان الله تعالى يقول ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ (31) ﴾ [3] فالعرب كانوا يفهمون المعاني اللفظيّة لهذه الكلمات بلا شكّ لأنه كان يكلّمهم بلغتهم وإلاّ لاستشكلوا عليه بعدم فَهْمِ ما يقول ، خاصّةً إذا كان اللفظ كثير الإستعمال عند المسلمين كالصلاة والصيام . وقد أطلقوا على هذه المعنى بـ (الحقيقة الشرعيّة) .

أمّا إذا فرضنا أنّ بعض الكلمات لم تنقل إلى المعنى الشرعي المعروف عندنا في زمان رسول الله وإنما نقلت فيما بعد وفاته (ص) فقد أطلقوا على المعنى الجديد (الحقيقة المتشرّعيّة) ، أي حصل النقل في زمان المتشرّعة بسبب كثرة استعمال المتشرّعة لهذا اللفظ في معناه الجديد ، فكان الوضعُ تعيّنيّاً .


[2] لا سيّما وأنّ سياق الآية يدلّ بوضوح على إرادة النجاسة المعنويّة، فإنه يجوز إدخال النجاسات إلى المسجد الحرام ما لم يكن هتكاً له، كما أنه لا دخل لمنعهم من دخول المسجد الحرام بتوهّم وقوعهم بمأزق إقتصادي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo