< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : بقيّة الكلام في استدلالنا على مسلك الطريقية

تعرّضنا أمس للإستدلال صحّة مسلك الطريقيّة ووصلنا إلى ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن يحيى عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدَي رجلٍ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال : ( نعم ) ، قال الرجل : أشهدُ أنه في يده ولا أشهد أنه له ، فلَعَلَّهُ لغيره ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أفيحل الشراءُ منه ؟ ) قال : نعم ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( فَلَعَلَّهُ لِغَيرِه ! فمِن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك : هو لي وتحلفُ عليه ، ولا يجوز أن تَـنْبِسَه إلى مَن صار مُلْكُهُ مِن قِبَلِه إليك ؟! ) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( لو لم يَجُزْ هذا لم يَقُمْ للمسلمين سُوقٌ )[1] مصحَّحة الكافي ، وقلنا بأنّ هذه الرواية تفيد تنزيل ظاهر الحال منزلةَ الواقع .

وهنا لا شكّ أنك سوف تستشكل علينا فتقول : كيف خلطتَ ـ في أوّل هذه الفقرة ـ بين التنزيل منزلة العلم والتنزيل منزلة الواقع وكأنهما واحد ؟!

الجواب : هو أنّ التنزيل منزلة العِلْم ليس إلاّ بلحاظ متعلّق العلم ، أي ليس العِلْمُ هنا إلاّ مرآةً وطريقاً وكاشفاً للمتعلّق ، فهُما واحدٌ حقيقةً ، فأنت إذا قرأت رواية معتبرة تقول بوجوب السورة بعد الفاتحة وقلنا بأنّ الله تعالى نزّلك منزلةَ العالِم بالحكم ، فهذا التنزيل هو كما لو نزّل الله جلّ وعلا مؤدّى الأمارةِ منزلةَ الواقعِ تماماً .

وأمّا الأصولُ العمليّةُ فقد شرَّعَها اللهُ تعالى في مقام عدم وِجدان أماراتٍ معتبرة شرعاً ، ولذلك كانت الأماراتُ واردةً على الأصول العمليّة لأنها تُلغي موضوعَها . والأصولُ العمليّة قد يجريها خصوصُ المجتهد ـ وليس العامّي ـ ويَستـنبِط منها أحكاماً شرعيّة ، كأصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة والبراءة والحِلّ ، وقد يجريها العامّي كأصالة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة ، وكالإستصحاب في الشبهات الموضوعيّة . وبتوضيح أكثر : الإستـصحابُ في الشبهات الحكميّة بما أنه غير صحيح فهو ليس أصلاً عمليّاً عندنا ولا يدخل في علم الأصول عندنا ، وإنما الإستصحاب في الشبهات الموضوعيّة هو الصحيح وهو الشرعي ولكنه قاعدةٌ فقهيّة يجري فقط في الشبهات الموضوعيّة ويُجريه العوامُ ولا يَستـنبط منه العوامُ أحكاماً شرعيّة . نعم يجب إدخالُ قاعدة الإستصحاب في علم الأصول ، وذلك لصحّة جريانه ـ عند البعض ـ في الشبهات الحكميّة ، فهو إذن محلّ كلام ونقاش في جريانه في الشبهات الحكميّة ، إذن هو كالقياس من هذه الناحية ، يجب إدخاله في علم الأصول لبحثه، فإنه لا ينبغي إخراج أيّ بحث عن علم الأصول لمجرّد أنه غير صحيح عند الكاتب .

وهل الإستصحاب في الشبهات الموضوعيّة وفي الشبهات الحكميّة ـ بناءً على صحّة جريانه في الشبهات الحكميّة ـ أمارةٌ أم أصل محرِز ؟ فنقول : لا شكّ أنّ الإستصحاب فيه جنبةُ كشف وبالتالي يكون أصلاً محرِزاً ، وذلك لأننا ـ بالوِجدان ـ نعلم أنه في الكثير من الحالات تَبقَى الحالاتُ السابقةُ باقيةً على ما هي عليه ، لكن بما أنه يُستبعَدُ جداً أن يكون اللهُ تعالى قد شرّع لنا الإستصحابَ من هذا المنطلق ـ لأنّ الكاشفيّةَ المذكورة ليست كافيةً عقلائيّاً في تشريع الإستصحاب ، أي ليس الإستصحاب من هذه الناحية كخبر الثقة واليد وسوق المسلمين التي أعطاها الله الحجيّةَ لإصابتها للواقع غالباً ـ لذلك يظهر أنّ جزءَ العلّةِ الأخرى لتشريع الإستصحاب هو ـ بحسب الظاهر ـ مَيلُ الإنسانِ بل الحيوان أيضاً ـ بغريزته ـ إلى البناء على بقاء الحالة السابقة ، لذلك كان الإستصحاب ـ عقلائيّاً ـ أصلاً عمليّاً [2] بوضوح . وبتعبيرٍ آخر: بما أنه يَـبْعُدُ جدّاً أن يكون اللهُ سبحانه قد شَرّع الإستصحابَ لأجل أنه يصيب الواقعَ غالباً، فإنّ العقلاء يرَون بوجدانهم أنّ الإستصحابَ هو أصلٌ عمليّ شرّعه اللهُ في الموضوعات لأنّ الميلَ الإنساني يقتضي بقاءَ الحالة السابقة ، ووسّع في التعبّد بالإستصحاب حتى ولو ظنّ الشخصُ بتغيّر الحالة السابقة ، ولذلك لا تكون لوازمه العقليّةُ حجّةً شرعاً ولا عقلائيّاً ـ بخلاف الأمارات المعتبرة ـ وذلك لأنّ العقلاء لا يَرَون المولى تعالى أنه يريد إعطاءَ الحجيّة للوازم الإستصحاب أيضاً ، وإنما يفهمون تشريعَ الإستصحاب بلحاظ مدلوله المطابقي فقط ، حتى لو شككنا في إعطاء الحجيّة للَّوازم العقليّة للإستصحاب فالأصلُ العدم.

وبتعبير آخر : بما أنه مِنَ الواضح أنّ الله جلّ وعلا قد شَرّع البراءةَ والحِلّ والطهارةَ للتسهيل على الناس ولصعوبة تكليفهم بالإحتياط في موارد الجهل ، وشرّع الإستصحابَ لسببين : التسهيل على الناس ومراعاةً لميل الإنسان بالبقاء على الحالة السابقة ، وشَرّع الإحتياطَ مراعاةً للملاك الواقعي الأهمّ المجهول ، فهذه الأسباب لا تقتضي التعبّد باللوازم العقليّة للأصول العمليّة ، وإنما يُقتصَرُ في التعبّد على القدر المتيقّن ، وهي المداليل المطابقيّة للأصول العمليّة .

ثم لا شكّ أنّ الإنسان يستحقّ العقابَ على المقدار المتنجَّز عليه شرعاً ، ولا يستحقّ العقابَ على الواقع المجهول ، مثلاً : لو كان شخصٌ يعتقد بكون الشخص البعيد عنه هو فلان المحترم الدم ، أو جاءته بيّنةٌ شَهِدَتْ له بذلك فأطلق عليه النارَ عمداً بهذه النيّة الفاسدة ، وصادف أنّه كان شخصاً آخر ناصبـيّاً حربـيّاً يستحقّ القتل ، فمُطلِقُ النارِ ـ بلا شكّ ـ يستحقّ العقابَ على مخالفته بِنيّته ، أي على تجرُّئِه على الله سبحانه وتعالى ، ولو كان يريد إطلاقَ النار على مَن يعتقدُ أنه حربيّ فصادف أنه كان مؤمناً في الواقع ، فهو لا يستحقّ العقاب عقلاً . وكذا لو استصحب نجاسةَ الماءِ فشَرِبَه عمداً ـ أي خلافاً لوظيفته الشرعيّة بلزوم اجتـنابه ـ وصادف أنّ الماء كان باقياً على النجاسة ، فالعقلُ يَحكم باستحقاقه للعقاب على شربه للماء المتـنجّس ، لأنّ وظيفته الشرعيّة كانت وجوب اجتـنابِه لاحتمال نجاسته واقعاً .

وهنا يجب التعرّض لملاحظتين :

الأولى : لا شكّ أنك تعلم بأنّ دليل قاعدة الطهارة يتعبّدنا بالبناء على الطهارة في حال الجهل بنجاسة الشيء .

وهنا يقال بأنّ دليل قاعدة الطهارة ينزّل مشكوكَ النجاسةِ منزلةَ الطاهر الواقعي ، أي أنه يكون حاكماً على شرطيّة الصلاة ، لأنه يوسّع شرطيّة الطهارة في الصلاة ، وذلك بالتقريب التالي : إنّ موثّقة عمّار المشهورة القائلة بأنّ ( كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك )[3] ظاهرةٌ في التـنزيل بوضوح ، هذا أوّلاً ، وثانياً: أنت إذا صلّيتَ بثوب نجس واقعاً ، طاهرٍ ظاهراً ـ بناءً على قاعدة الطهارة ـ ثم علمتَ بنجاسته ، فقد صحّت صلاتُك واقعاً ، إذن فدليل قاعدة الطهارة يوسّع في شرطيّة الصلاة ، وينزّل المجهولَ النجاسةِ منزلةَ الطاهر الواقعي .

أقول : ما ذُكِرَ غيرُ صحيح ، يتّضح ذلك من خلال الأجوبة على التوهّمات السابقة :

أوّلاً : إنّ استدلالكم بظهور لفظة ( كلّ شيء نظيف ) في التنزيل غير صحيح وذلك بدليل أنك إن توضّأتَ بماءٍ طاهرٍ ظاهراً ـ بناءً على قاعدة الطهارة أو الإستصحاب ـ فصلّيتَ ثم علمتَ بنجاسة الماءِ فإنّ عليك أن تبنيَ على بطلان وضوئك بالإجماع ، ولا صلاة إلاّ بطهور ، فتكون بالتالي صلاتُك باطلةً ، وهذا أيضاً بالإجماع ، وهذا يعني أنّ الفرقَ بين الوضوء بالماء المتـنجّس والصلاة بالثوب المتـنجّس هو التعبّد ، ولو كان المراد من لفظة ( كلّ شيء نظيف ) هو التـنزيل ـ كما هو الظاهر من اللفظ ـ لكان اللازم أن يقال بصحّة وضوئه وصلاته ، وأنه يلزم أن يعيد وضوءه للصلوات التالية .

ثانياً : إنّ في وسط الحديث ( فإذا عَلِمْتَ فقد قَذُرَ ) وهذا يعني (إذا علمت بنجاسة البدن أو الثوب فعليك أن تعيد صلاتك) ، لكن ورد في صحيحة زرارة وغيرِها أنه في خصوص هذا الحكم لا يعيد الصلاة لأنّ شرط الصلاة هي الطهارة الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة ، فنبقى في بقيّة الأحكام على عدم التـنزيل وعدم الإجزاء ، فبناءً على الجمع بين أوّل الحديث ووسطه نعرف أنّ المراد من ( كلّ شيء نظيف ) هو ( تـنزيل المشكوك منزلة الطاهر في الجري العملي) فقط أي لا في كلّ الآثار الشرعيّة .

ثالثاً : إنّ الإكـتـفاء بالطهارة الظاهريّة في الصلاة لا يعني أنه وسّع في مفهوم الطهارة الشرعيّة بنحو الحكومة ، وإنما شرطُ الصلاة شرعاً هو الطهارة الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة ، وهذه الشرطيّة وردت في بعض الروايات من قبيل ما رواه في التهذيـبين بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد(بن عيسى) عن حريز عن زرارة ـ في حديث ـ قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : فإنْ ظننتُ أنه قد أصابته نجاسة ولم أتيقَّن ذلك ، فنظرتُ فلم أرَ شيئاً ، ثم صلَّيتُ فرأيتُ فيه ؟ قال(عليه السلام) : ( تغسله ولا تعيد الصلاةَ ) ، قلت : ولِمَ ذلك ؟ قال : ( لأنك كنت على يقين من طهارتك ، ثم شككتَ ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً ـ يعني أنك اعتمدت على استصحاب الطهارة ، أي أنك صلّيتَ بناءً على الطهارة الظاهريّة وهذا يكفي في الطهارة في البدن واللباس في الصلاة )[4] صحيحة السند ، ولولا هذه الصحيحةُ وغيرُها لما تجرّأ فقهاؤنا على القول بصحّة صلاةِ مَن صلّى بثوب متـنجّس واقعاً طاهرٍ ظاهراً إعتماداً على ظهور ( كلّ شيءٍ نظيفٌ ) في مطلق التـنزيل ، ولقالوا ـ كما يقولون في باب الأمارات ـ بوجوب إعادة الصلاة . ولذلك يجب القول بأنّ المراد من ( كلّ شيء نظيف ) هو التنزيل بلحاظ الجري العملي ـ أي التـنجيز والتعذير ـ لا أكثر ، كما لو شككتَ في نجاسة طعام أو شراب فلك أن تبني على طهارتهما ، ولا دليل على أنّ قاعدة الطهارة تريد توسعة الطاهر الواقعي أصلاً كما هو الحال في (لا ربا بين الوالد وولده) الذي يضيّق مفهومَ (الربا) في قولنا (الربا حرام) ، فالنجس الواقعي نجس ، ولكن للإنسان الجاهل بالنجاسة ـ من باب الإمتـنان عليه من ربّه ـ أن يـبني على الطهارة لا أكثر .

رابعاً : إنّ الأدلّة في باب الأمارات تفيد أيضاً تـنزيلَ مؤدّى الأمارة منزلةَ الواقع ، وقد ذكرنا ذلك قبل قليل عند ذكر روايات ( العَمْرِيّ ثـقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطِعْ ، فإنّه الثّـقة المأمون ) ( العَمْري وابنُه ثـقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثّـقتان المأمونان ) ( وأما محمد بن عثمان العَمْري فإنه ثـقتي وكتابُه كتابي ) ، أي أنّ الثـقة إذا قال لنا خبراً فكأنه الواقعُ تماماً ، ومع ذلك لم يتجرّأ فقيهٌ على القول بأنّ مَنِ اعتمد على خبر الثـقة فصلّى قصْراً ـ مثلاً ـ ثم تبـيّن أنه كان يجب عليه أن يُتِمّ صلاتَه أنه يُكتفَى بصلاته بناءً على تنزيل مؤدّى خبر الثقة منزلة الواقع ، ومِثْلُ هذا الحكمِ الكثيرُ من الأمثلة .

الملاحظة الثانية : مرّ معك في مرحلة السطوح أنّ المداليل العقليّة للأمارات حجّة دون المداليل العقليّة للأصول العمليّة ، وقد فضّلنا ذِكْرَها ـ بتوسعة وتفصيل ـ في بحث الركن الثالث من أركان الإستصحاب ـ تحت عنوان مثبتات الأمارات والأصول ـ لأكثر مِن سبب ، منها أنّ البحث والكلام في المثبتات يقع في باب الإستصحاب ، وإلاّ فاللوازم العقليّة للأمارات حجّة بلا شكّ ولا خلاف لأكثر من سبب ككونها تصادف الواقع غالباً كالمداليل المطابقيّة للأمارات ، ولأنّ الثـقة إذا أخبر عن شيء فهو عرفاً يخبر عن لوازمه العقليّة لأنهما بقوّة واحدة من حيث الكاشفيّة ، فلو قال الثقةُ (كان زيد تحت الحائط عند وقوع الحائط عليه)، فقولُه هذا يعني أنه قد مات ، بخلاف ما لو استصحبنا بقاءه تحت الحائط ، فإنه ليس لنا أن نبني على أنه قد مات فنورّث أقاربَه وتعتدّ زوجتُه ! بل اللوازم العقليّة لسائر الأصول غير حجّة ، فلو تمسّكنا بقاعدة الطهارة في لحمٍ وجدناه في أرضٍ لغير المسلمين فإنّ ذلك لا يجوّز لنا أن نتمسّك بقاعدة الطهارة أو بطهارة اللحم لإثبات لوازم الطهارة وهي تذكيّة اللحم ... فراجع هناك .

 


[2] رغم عِلْمِ بعض الخبراء بعدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكميّة فإنهم جروا على استعمال لفظة (أصل عملي) في الإستصحاب، رغم عِلْمِهم بأنه قاعدة فقهيّة لأنه لا يجري إلاّ في الشبهات الموضوعيّة وأنه يُجريه العامّي، بمعنى أنه يطبّقه على موارده، ونحن جرينا في هذا الكتاب على منهجهم، فإننا وإن كنّا نقول بأنه قاعدة فقهيّة فإنه في علم الفقه هو أصل عمليّ، فلا مشكلة إذن إذا وصفناه بأنه أصل عمليّ .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo