< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إجتماع الحكم الواقعي والحكم الظاهري .

لا شكّ في وضوح الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، وهو أنهما في مرتبتين طوليّتين ، فالحكم الواقعي ـ كحرمة التدخين بعنوانه الواقعي مثلاً ـ متعلَّقُهُ نفسُ التدخين ، والحكم الظاهري شرطه الشكّ والجهل بحكم التدخين ، فيقول الشارع المقدّسُ : وظيفتكم الظاهرية ـ أي في حال الجهل بالحكم الواقعي ـ هو جواز التدخين .

المهمّ هو أنه لا شكّ في إمكان التعبّد الشرعي بالأمارة الغير علمية وبالاُصول العملية ـ كما هو المجمع عليه إلاّ من ابن قبة ـ ولا شكّ في عدم لزوم أيّ مُحال عقلي وأيّ مانع من ذلك .

كلامُنا هذا خالفه ابنُ قبة[1] ، فقد ادّعى عدمَ الإمكان الوقوعي لما تخيّله من ترتّب محال أو باطل على التعبّد بالأمارات والأصول ـ من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أو استلزامه اجتماع المتعارضين ـ بعد تسليمه بالإمكان الذاتي ، مع أنه سيأتيك ـ في بحث الأدلّة على حجيّة خبر الثقة من الكتاب الكريم والسُّنّة الشريفة ـ أنّ أدلّ دليلٍ على الإمكان الوقوعي هو الوقوع الخارجي مع عدم ترتّب أي محذور .

المهمّ هو أنّ ابنَ قبة ادّعى أنّ التعبّد بالأمارات والأصول يترتّب عليه محذوران : مَلاكي وخطابي , قد رددنا عليه في الدرس السابق ووصلنا في الردّ عليه إلى الجواب الرابع حيث قلنا : أدلّة حجيّة الأمارات لا تريد أن توصلنا بالأخير إلى الإيمان بأنّ (التدخين غير مضرّ ملاكاً وواقعاً وهي جائزةٌ واقعاً) ، ولذلك لا يقع أيّ معارضة بين الأحكام الواقعيّة ومؤدّيات الأمارات ، لا على مستوى المصلحة والمفسدة ولا على مستوى المحبوبـيّة والفعليّة، وذلك لأنّ مؤدّى الأمارة لا يفيدنا العلمَ دائماً بوجود ملاك واقعي ومحبوبـيّة واقعيّة في التدخين أو في الإتيان بالسورة ، كما لو أفادتـنا الأمارة وجوب السورة بعد الفاتحة في ضيق الوقت ، وكانت محرّمةً في الواقع لكونها سبباً لوقوع بعض الصلاة خارج الوقت . وباختصار : لن يحصل تعارض في أيّ مرحلة من المراحل ، لا في مرحلة الملاكات ولا فيما بعدها .. وذلك لما قلناه من أنّ الله تعالى إنما شرّع الأمارات ـ كما في قاعدة اليد وسوق المسلمين والصحّة في عمل الغير ـ لأنها غالباً تصيب الواقع ، أي لمصلحة في نفس جعل الأمارة ـ لا في متعلقها أي لا في نفس التدخين وقراءة السورة ـ وهذا هو ملاكها ، فإذن إعطاء الحجيّة للأمارات إنما هو لإدراك أغلب المصالح الواقعية ، فاختلف مصبّ المصالح والملاكات في الأحكام الظاهرية عن مصبّ الملاكات في الأحكام الواقعية ، فالأُولى مصبّ الملاك في تشريع الأحكام الظاهرية هو لإصابة أغلب الأحكام الواقعية ، والثانية هو نفس متعلّق الأحكام الواقعية ، ولذلك قلنا إنه لن يحصل تعارض في مرحلة الملاك أصلاً .

وقد عرفت عدم وقوع تزاحم بين الحكمين الواقعي والظاهري في مرحلة الإمتـثال ، وذلك بعد معرفتك بتـنجيز خصوص مؤدّى الأمارة دون الحكم الواقعي ، ولذلك لن يقع المكلّف في التزاحم بين وجوب قراءة السورة مثلاً وبين حرمتها ، لأنه إنما عليه ـ مع الجهل بالحكم الواقعي ـ أن يتّبع الأمارة ، فهي فقط ، المنجّزةُ عليه ويجب امتـثالها ، فإذن ليس هناك طلبٌ منجّز للضدّين .

 

وأمّا في الأصول :

فيكفي أن تعلم أنّ المولى تعالى إنما شرّع الاُصول العملية في المواضيع الغير مهمّة ، ذلك لأنها لو كانت مهمّةً لَذَكَرَ لنا حُكْمَها الواقعي في الكثير من الروايات ولَجَعَلَها من ضروريات الدين كما في الصلاة والصيام وحرمة الخمر والزنا ، ولكنه جلّ وعلا رأى أنّ بعض الاُمور لا مشكلة فيما لو أجرى فيها الفقهاءُ البراءةَ كما في القنوت وجلسة الإستراحة ونحو ذلك ، وإنما شرّع الاُصول العملية لبعض فوائد كالتسهيل على الناس ، ولأنّ بعض الاُصول تناسب الفطرة البشرية كما في الإستصحاب ، ولا تضرّ في دين الله شيئاً ، وشرّع الاُصول في الموضوعات الخارجية للتسهيل أيضاً على الناس ، كما في الفراغ والتجاوز وهكذا ... فتشريعها في الموضوعات الخارجية أمْرٌ لا بدّ منه ، لأنه لا حلّ آخر .

ثم اعلم أنّ مؤدّى الاُصول العملية هي منجِّزة فقط ، لنا وعلينا ، ولا تصير فعليةً بوجه ، وذلك لأنها غير ناظرة إلى الملاك الواقعي وإلى الفعليّة الواقعيّة . وبتعبير آخر : حينما نكون جاهلين بالحكم الواقعي ، فكيف نعلم بالفعلية الواقعيّة ؟! فمثلاً : لو فرضنا أنّ الأمارةَ قالت بوجوب جلسة الإستراحة لما كان هذا الوجوب معلوم الفعلية واقعاً ، وإنما نقول ـ كأقصى حدّـ هذا الحكمُ منجّزٌ علينا فقط .

ثم أنت تعلم أنه لا يمكن أن يَحصل تنافٍ وتعارضٌ بين الأحكام الظاهرية لأنّ لكلّ موردٍ حُكْماً معيّناً ، فلا يُتصوّر بينها تعارضٌ مطلقاً .

[ الأمارات والأصول ]

لا شكّ أنك تعلم أنه لم يَرِدْ مصطلحا الأمارات والأصول في الشرع ، وإنما اصطلح العلماءُ على ذلك لأمرٍ معلوم وواضح وهو أنّ العلماء لمـّا رأوا أنّ هناك بعضَ الأدلّة تكشف ـ نوعاً وعموماً ـ عن الواقع غالباً ، وهناك أدلّةٌ لا تكشف عن الواقع غالباً وإنما جعلها اللهُ لعباده ليسيروا على أساسها لأسباب وجيهة ، سمّوا الأولى أماراتٍ وسمّوا الثانيةَ أصولاً .

كما رأوا أنّ بعض تلك الأماراتِ تَعبّدنا اللهُ تعالى بحجيّتها لكاشفيّتها عن الواقع غالباً ، فوضعوا كلمةً تدلّ على حجيّتها فقالوا (أمارة معتبرة) .

كما ولاحظوا أنّ المولى تعالى اعتبر اللوازم العقليّة للأولى حجّة دون اللوازم العقليّة للثانية .

فالأمارات إذن إمّا معتبرة شرعاً ، وإمّا غير معتبرة شرعاً ، وسوف يأتي الحديث عنهما بالتفصيل وبالدليل في الكلام حول حجيّة خبر الواحد ، ونلخّص هنا المطلب ببعض كلمات فنقول :

أمّا الأمارات الغير معتبرة فهي التي لم تصلنا حُجيّتُها كخبر مجهول الحال ـ ومع الشكّ في الحجيّةِ الأصلُ عدمُ الحجيّة شرعاً وعقلاً ـ أو وصلنا عدمُ حجيّتها ـ كالقياس ـ وهذه وجودها كعدمها شرعاً ، وهذا أمر معلوم عند كلّ العلماء لأنّ الظنّ ليس بحجّة ... نعم قد تفيدنا بعضُ الأمارات الغير معتبرة كقرائن ومؤيّدات لا أكثر ، إلاّ إذا أفادتنا العلمَ في بعض الحالات كما في تراكم الأمارات الضعيفة حتى اطمأننّا بصحتها أو بصدور بعضها .

وأمّا الأماراتُ المعتبرةُ فهي التي أعطاها الله الحجّيّةَ في مقام الجهل بالأحكام الواقعيّة ، وإنما أعطاها الحجيّة لوجود كاشفيّة فيها ، ولأنها تصيب الواقعَ غالباً ، وكأنّ الله جلّ شأنه يقول لنا (إن كان عندكم علم بالأحكام الواقعيّة فاتّبعوها ، وإلاّ فاتّبعوا الأمارات المعتبرة ، وإلاّ فاتّبعوا الأصول العمليّة) . ولذلك كانت الأمارات هي التي تقابل الأصولَ العمليّة ، وليست حجيّةُ أخبار الثقات هي التي تقابل الأصول العمليّة . وقد خَصّص علماؤنا اصطلاحَ (الأمارات) لمثل خبر الثقة واليد وسوق المسلمين ، أي التي أعطاها المولى تعالى الحجيّةَ لوجود كاشفيّة فيها بشرط عدم إفادتها للعِلْمَ . مثال الأمارات : أخبارُ الثقات واليد وسوق المسلمين والفراغ والتجاوز والصحّة في عمل الغير والظهور وسيرة المعصومين وفِعْلهم وإمضاؤهم وسيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء والإجماع والشهرة الروائيّة والشهرة الفتوائيّة والقياس .

والأمارات ليست دائماً أدلّةً شرعيّة ولا قواعد فقهيّة ، إنْ هي إلاّ أخبارٌ ـ كخبر الثقة ـ أو كواشف ـ كاليد وسوق المسلمين ـ تُفيد الكاشفيّةَ إلى حدّ ما ، وقد يعطيها اللهُ الحجيّةَ فح يصحّ أن نقول عنها إنها دليل شرعي أو قاعدة فقهيّة ، وقد لا يعطيها الحجيّة كخبر مجهول الحال ، وقد ينهى عنها كالقياس .

ولا بأس في هذا المـقام أن نَذْكُرَ بعضَ الأدلّةِ على صحّة مسلك الطريقيّة :

لاحِظْ مثلاً آيةَ النبأ وغيرَها ترى أنّ الشارع المقدّس يعتبر الأماراتِ بمنزلة الواقع ، ويعتبرُ العِلمَ بها بمثابة العلم بالواقع ، كما هو واضح من خلال أدلّة كثيرة كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَـيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [2] فهي تعتبر خبر العادل بـيّناً أو قُلْ بَياناً وعِلْماً ، لأنه لا يحتاج إلى تبيّن وتأكّد ، بخلاف خبر الفاسق ، ومن خلال صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (الهادي)t قال : سألته وقلت من أعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال له : ( العَمْرِيّ ثـقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطِعْ ، فإنّه الثّـقة المأمون )، وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال له : ( العَمْري وابنُه ثـقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثّـقتان المأمونان ) ، وهذا يفيد تنزيل مؤدّى خبر الثقة منزلة الواقع ، ومِثلُها تماماً مصحّحةُ إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العَمْري أن يوْصِلَ لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائل أشكلت علَيّ ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج) : ( .. وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ، وأما محمد بن عثمان العَمْري رَضِيَ اللهُ عنه وعن أبيه مِن قَبْلُ فإنه ثـقتي وكتابُه كتابي ) وهي أيضاً تفيد تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وغيرها من أدلّة[3] .

وليس التنزيل منزلةَ العلم هو في خبر الثقة فقط ، فإنك تلاحظ في قاعدة اليد أنّ الشارع المقدّس اعتبر أنّ اليد تفيد العِلْمَ بالملكيّة ، فإنِ اشتريتَ شيئاً من شخص فلك أن تحلف أنه لك ، بل لك أن تحلف أنه كان للبائع ، وهذا مبنيّ على تنزيل أمارة اليدِ منزلة سبب العلم ، أو قُلْ تُفيدك قاعدةُ اليدِ تنزيلَك منزلةَ العالِمِ . لاحِظْ مثلاً ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن يحيى عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدَي رجلٍ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال : ( نعم ) ، قال الرجل : أشهدُ أنه في يده ولا أشهد أنه له ، فلَعَلَّهُ لغيره ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أفيحل الشراءُ منه ؟ ) قال : نعم ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( فَلَعَلَّهُ لِغَيرِه ! فمِن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك : هو لي وتحلفُ عليه ، ولا يجوز أن تَـنْبِسَه إلى مَن صار مُلْكُهُ مِن قِبَلِه إليك ؟! ) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( لو لم يَجُزْ هذا لم يَقُمْ للمسلمين سُوقٌ )[4] مصحَّحة الكافي ، وتصحّح أيضاً من باب رواية الصدوق عن سليمان بن داود في الفقيه مباشرةً ممّا يعني أنّ كتابه من الكتب التي عليها معوّل الشيعة وإليها مرجعهم .


[1] الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، ج1، ص437.، أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، فقيه رفيع المنزلة، من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo