< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الفرق بين المسألة الأصوليّة والقاعدة الفقهيّة

ممّا سبقَ تعرف الفرقَ بين المسألة الأصوليّة والقاعدة الفقهيّة وهو :

أنّ المسألة الأصوليّة هي التي تَجري في الشبهات الحكميّة ، وبالتالي يُجريها خصوصُ المجتهد، لا العامّي ، وبالتالي يُستـنبَط منها أحكام شرعيّة ،

وهي نحوان : النحو الأوّل مثل (خبر الثقة في الأحكام حجّة) و (الظهور حجّة) ، والنحو الثاني مثل (البراءة في حال عدم وجدان أمارات هي حجّة) و (الحِلّ في حال عدم وجدان أماراتِ حجّةٌ) ، فإنّ قاعدتَي البراءة والحلّ لا تجريان إلاّ في الشبهات الحكميّة ، وهما أصول عمليّة ، وكذلك الإستصحاب ، لكن على القول بأنه يجري في الشبهات الحكميّة . والفرق بين النحو الأوّل والنحو الثاني هو أنّ موضوع النحو الأوّل هو أمارة ، وأمّا موضوع الأصول العمليّة فليس إلاّ إسماً مفرَداً يدِلّ على معناه .

وأمّا القاعدةُ الفقهيّة فهي التي يُجريها العامّيُّ ، ويطبّقها تطبيقاً على مواردها المناسبة ، ولا يَستـنبِط منها أحكاماً شرعيّة ،

هذه القواعد الفقهيّة هي أيضاً نحوان : النحو الأوّل مثل (خبر الثقة في الموضوعات حجّة) (اليد حجّة في إثبات الملكيّة) و (سوق المسلمين حجّة في التذكية والطهارة) ، وقد جَعَلَها اللهُ تعالى لكاشفيّة موضوعات هذه القواعد كاليد وسوق المسلمين وعمل الغَير عن التملّك والتذكية والطهارة والصحّة ولأنها تصيب الواقعَ غالباً ، لذلك أعطى اللهُ تعالى موضوعاتها الحجيّةَ ـ أي أعطى هذه الأماراتِ الحجيّةَ ـ .... والنحو الثاني مثل (الإستصحاب في الشبهات الموضوعيّة حجّةٌ) و (قاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة حجّة) ، هذا النحو الثاني هو في الواقع أصول عمليّة لكنْ في عالم الفقه .

واعلم أنّ الأحكام الوضعيّة هي أحكام شرعيّة مجعولة بنحو الإستقلال ، كالأحكام التكليفية تماماً ، فكما يمكن جعْلُ المولى تعالى الصلاةَ واجبة ، يمكن له أن يجعل أحكاماً وضْعِيّة مثل ( مَن حاز مَلَكَ) و (البيّنة حجّة) و (سوق المسلمين أمارة شرعيّة على التذكية والطهارة) .. وإنما جعَلَ اللهُ تعالى هذه الأحكامَ الوضعيّة لتـنظيم حياة الإنسان ، كما في جعْلِ الزوجيّةِ والملكيّة والحريّة والرِّقيّة . ومن البديهي بطلانُ القولِ بعدم كون الأحكام الوضعيّة شرعيّة .

واعلم أنّ الأحكام الشرعيّة شاملة لجميع وقائع الحياة ، قال الله تعالى ﴿ اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً [1] ، وقد وردت نصوص كثيرة في شمول الأحكام لكلّ واقعة من وقائع الحياة من قبيل ما ورد في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد (بن عيسى) عن عبد الله (بن محمّد) الحجّال (ثقة ثقة) عن أحمد بن عمر الحلبي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال : ( إنّ عندنا الجامعة ) ، قلت : وما الجامعة ؟ قال : ( صحيفة فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش ) ، وضرب بيده إليَّ فقال : ( أتأذن يا أبا محمد ؟ ) قلت : جُعِلْتُ فِداك ، إنما أنا لك ، فاصنعْ ما شئت ، فغمزني بيده وقال : ( حتى أرش هذا )[2] صحيحة السند . على أنه من المعلوم عند العلماء أنّ الناس حينما كانوا يسألون المعصومين (عليهم السلام) عن مسألة فسوف يجيـبونهم عنها من اللوح المحفوظ ، ولن يخترعوا لهم حُكْماً ، أو لن يشرّع الله تعالى حُكْماً في الواقعة عند السؤال .

مراتب الحكم الواقعي

لا شكّ في أنّ المولى عزّ وجلّ لا يمكن عقلاً أن يُشرِّعَ حُكماً إلاّ على أساس الملاك ـ أي المصلحة أو المفسدة الموجودين في الموضوع ـ وهذا مقتضى الحكمة البالغة لدى الله تعالى ، ولذلك لا يمكن عقلاً إلاّ أن يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ويَنْهَى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ولذلك أجمعت الطائفة على ذلك ، ولذلك أجمعوا على لزوم أن يكون هناك ملاك أوّلاً ، يَنشأ منه الحكمُ أو يصبّ عليه الحكمُ .

بـيانُ ذلك : قد تكون بعض موضوعات الأحكام محبوبةً ذاتاً وعقلاً ومن دون تدخّلٍ من الباري عزّ وجلّ ، كالنظافة والصدق والعدل ، فيوجبها الله تعالى أو يرغّبنا بها ، لأنّها بذاتها تقتضي ذلك ، وقد تكون مبغوضةً ذاتاً ، فيحرّمها اللهُ تعالى كالظلم وشرب الخمر ، وقد يجعل اللهُ سبحانه بعضَ أمورٍ فيوجبها علينا ـ كالفرائض الخمسة الواجبة ـ أو يرغّبنا بها ـ كصلاة الليل ـ ، وهذا يعني أنّ موضوعات الأحكام على نحوين ، فإمّا أن تقتضي بذاتها ـ ومن دون تدخّل ربّانيّ ـ حكماً إلهيّاً ، يكون في الواقع عقليّاً ـ كما في وجوب العدل وحرمة الظلم ـ وإمّا أن يصنعها اللهُ جلّ وعلا ـ كالصلاة والصيام والحجّ والخمس والزكاة ـ ثم يصبّ الأحكامَ عليها .

على كلٍّ ، ثم يحبّها اللهُ أو يُـبغِضُها ... على مراتب متفاوتة .

ثم يحصل إرادة لدى المولى تعالى في جعْلِ الحكم المناسب . ثم لا شكّ في تعدّد مرتبتَي الحبّ والإرادة ، فاللهُ يحبّ آثارَه ، كما نحبّ نحن الورود والزهور والنباتات الجميلة ، ولكن قد لا يريد أن يَصبّ عليها حُكْماً ، ولو لعدم قابليّتها ، وإرادةُ الحكم يجب أن تكون في مكان قابل للحكم .

ثم يعتبر اللهُ الحكمَ في عالم العِلْم والثبوت ، إذ لا يمكن ـ بحسب تفكيرنا القاصر ـ أن يُنْشِئَ البارئُ تعالى حُكْماً قبل أن يكون في عِلْمِه متصوَّراً بكلّ شرائطه وأجزائه وبالحكم المناسب لذلك ... فالمقنّنُ يجب أن يَتصوّر الموضوعَ والحكمَ أوّلاً ثم يُظهرُه ، هكذا نَرَى بتفكيرنا الناقص ، واللهُ أعلم .

هذه المراتبُ الأربعةُ تكون ـ إذَنْ ـ في عالم الثبوت ، ويسمّى عند الناس وبلحاظ الناس (عالَم التـفكير ) ، فعالَم التفكير ـ عند الناس ـ هو عالَم الثبوت عندهم ، لكن لا يجوز أن يسمَّى عالَمُ الثبوت عند الله تعالى بـ عالم التفكير ، لأنّ الله تعالى عنده التفكيرُ طفرةً لا امتداد فيها ـ وهي تكون بلحظة ، وهي أقلّ مدّةً في الزمان والتي هي أقلّ من ثانية ـ أي لا بنحو التدريج كما هو عندنا نحن الناس .

ثم إذا شاء أنزله على قلب رسوله الأكرم (ص) ، وهذا يكون في عالم الإثبات أي الإظهار.

ثم بعد ذلك ، إذا تحقّقت مقدّمات فعليّة الحكم الواقعي أي شرائط فعليّة الحكم الواقعي ـ كالزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر ، والإستطاعةِ بالنسبة إلى الحجّ ـ صارت صلاةُ الظهر عليه واجبةً فعلاً وصار الحجُّ عليه واجباً فعلاً . هذه الأحكامُ الفعليّة ليست شرعيّة ، وإنما هي عقليّة فقط، والشرعيّةُ هي الأحكام الموجودة في عالم الجَعْلِ فقط .

ثم إذا عَلِمَ المكلّفُ بالحكم وبتحقّق مقدّماته صار الحكمُ عليه منجّزاً ، كما لو علم بتحقّق الإستطاعة . فإذا صار الحكم عليه منجّزاً فهذا يعني أنه صار واجبَ الإمتثال ، فإن لم يمتثل فإنه يستحقّ العقاب . وهذا الحكم المنجّز ، أيضاً ليس شرعيّاً ، وإنما هو عقليّ بحت .

وهنا ملاحظةٌ مهمّة وهي أنّ مؤدّيات الأمارات لا فعليّة فيها ـ كالأصول العمليّة تماماً ـ إنْ هي إلاّ منجّزة ومعذّرة ، فلو أفادتنا الأمارات أنّ (السورة بعد الفاتحة واجبة) (جلسة الإستراحة واجبة) (الخمر نجس) فإنّ هذه الأمارات لا تخلق عندك الفعليّةَ ، طالما أنت لم يحصل عندك عِلْمٌ بكون مؤدّى هذه الأمارات هي أمور واقعيّة قطعاً ، ولذلك لا يمكن لك أن تقول (إنّ وجوب السورة بالنسبة لي فِعْلِيٌّ رغم عدم عِلْمي بالواقع وذلك بدليل مجيء أمارة معتبرة في ذلك) ، وإنما يحصل تنجيزٌ وتعذير لا أكثر ، أو يحصل عندك عِلمٌ تعبّدي بذلك ـ على مسلك الطريقيّة .

واعلمْ أنّ الخطابات الشرعية مثل[ اَقِيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ ] ليست أحكاماً شرعيّة ، وإنما هي خطابات شرعيّة ، كاشفةٌ عن الأحكام الشرعيّة ، ذلك لأنّ الأحكام الشرعية في عالم الجعل هي بنحو الجمل الخبريّة ، لا بنحو الجمل الإنشائيّة ، وذلك لأننا لا نطّلع عليها ـ وهي في عالم الجعل ـ فلا معنى للخطاب فيها .

وكذلك الصحّةُ والبطلان فإنهما ليسا حكمين شرعيين ، وإنما هُما حكمان عقليّان ، بمعنى أنّ الإنسان إذا أتى بالفعل بشرطه وشروطه فقد وقع صحيحاً بحكم العقل ، وإن أتى بالفعل بشكل غير مجزٍ فإنه لا محالة يقع باطلاً عقلاً ، مَثَلُهما كمَثَلِ الأحكام الفعليّة والتنجيزيّة ، فإذا زالت الشمس وكان الإنسان عاقلاً وبالغاً فقد صار وجوبُ الصلاةِ عليه فعليّاً ، وإذا عَلِمَ بالحكم الشرعي وبتحقّق شرائط وجوبه فقد صار الحكمُ عليه منجّزاً ، ولكنْ هذان الحكمانـ أي الفعلي والتنجيزي ـ ليسا أحكاماً شرعيّة ، وإنما الحكم الشرعي هو فقط (الصلاة بالشروط الفلانية واجبة) .

الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بـينها ، فالوجوب يضادّ الإستحباب وغيرَه ، والحرمةُ تضادّ الكراهةَ وغيرَها ، ولذلك لا يمكن عقلاً أن يحكم الله عزّ وجلّ بحكمين متضادّين في عالم الجعل . نعم ، لا مانع من جعْلِ أحكام واقعيّة ومع ذلك يتعبّدُنا بأحكام ظاهريّة ـ وهي مؤدّياتُ الأمارات والوظائف العمليّة ـ منافيةٍ لتلك الأحكام الواقعيّة في حال الجهل بها ، وذلك لمصالح عظيمة يأتيك شرحها عند كلامنا عن إشكالات ابن قبة .

ونفسُ الكلام يجري في الأحكام الوضعيّة ، فإنه لا يمكن أن يشرّع المولى تعالى بطلان بيع الكلاب الثلاثة ويشرّع صحّة بيعها ، لأنهما متعارضان .

ومرجع استحالة التعارض بينها يكون على مستوى الملاك والمحبوبيّة والإرادة والإعتبار والجعل والفعليّة والتنجّز ، ويكفي أن ننظر إلى مرحلتَي الملاك والتنجّز فقط ، لتـتّضح الإستحالةُ في كافّة المراحل : فإنّ الفعل الفلاني إن كان ذا مصلحةٍ معيّنة أو مفسدة فإنّ الباري تعالى إنما يَحكم فيه بناءً على حكمته البالغة ، فهو إذَنْ يَحكم بحكمٍ واحد مناسبٍ للموضوع ، فلا يمكن إذن ـ بناءً على حكمة الله البالغة ـ أن يَحكم بحكم آخر له غيرِ مناسب ، وأمّا على مستوى التنجّز فلا يمكن أن ينجّز اللهُ تعالى الوجوب والحرمة والإستحبابَ على فعل واحد ، كما أنّ المكلّف إمّا أن يرى الفعلَ واجباً عليه أو غير واجب ... وهذه الأحكام المتضادّة في مرحلة الإمتثال لا تصدر من إنسان حكيم ، فكيف تصدر من ربّ الحكمة البالغة ؟!

ومن هنا نشأت إشكالاتٌ عند ابن قبة ونشأ البحثُ التالي ، سيأتينا غداً إن شاء الله تعالى.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo