< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تعريف عِلْمِ الاُصول وموضوعه

تعريف عِلْمِ الاُصول وموضوعه

قلنا إنّ عِلْم الأصول هو (العِلْمُ بالقواعد العامّة التي مِن شأنها أن تكون ممهّدةً لاستـنباط الأحكام الشرعيّة) . وقولنا (القواعد التي مِن شأنها أن تكونَ ممهِّدةً للإستـنباط) يُخْرِجُ القواعدَ الرجاليّة والحديثيّة والنحويّة واللغويّة ونحوها ممّا تكون بعيدة عن الإستـنباط أو غيرَ ناظرة إليه ، ولذلك لا ينبغي إدخالُها في علم الأصول لأنها ليست من الوسائط القريبة في عمليّة الإستنباط ، فالقواعد الرجاليّة ـ مثلاً ـ ناظرةٌ إلى إعطاء قواعد تفيد وثاقةَ طائفة من الرجال كمَن يروي عنهم أحدُ الأجلاء الثلاثة ، وأنّ مَن يروي عنه الصدوقُ في الفقيه هو ثقة ونحو ذلك ، فهي إذن ناظرةٌ إلى توثيق أو تضعيف طائفة من الناس ، ولا ربط لهذا الأمر بالإستـنباط إلاّ من بعيد ، وإنما هي من قبيل القواعد النحويّة والحديثيّة التي تفيدنا في الإستـنباط ولكنها وسائط بعيدة عن عمليّة الإستـنباط ، فهي ليست من قبيل حجيّة خبر الثقةـ مثلاً ـ وحجيّةِ الظهور وترجيح الروايات المتعارضة بمخالفة العامّة ، التي تدخل مباشرةً في عمليّة الإستـنباط . والخلاصة هي أنّ نظر القواعد الأصوليّة وغايتها هي في تعريفنا وتعليمنا على القواعد التي تدخل في عمليّة الإستنباط مباشرةً ويكون نظرها إلى الإستنباط ، بخلاف القواعد الرجاليّة والحديثيّة والنحويّة .

وهنا ينشأ إشكالان وهما عن توجيه دَخالةِ مباحث الألفاظ والمباحث العقليّة في علم الأصول

الأوّل : يتساءل بعضُ الناس عن مباحث الألفاظ ـ كقولهم (الأمرُ يدلّ على الوجوب ) وكقولهم (الجملةُ الشرطيّةُ ظاهرةٌ في المفهوم ) ـ فيقولون : أليست هي داخلةً في عِلم اللغة وليس في علم الأصول ؟! وأليست هي واسطةً بعيدة وغير مباشرة في عمليّة الإستنباط ؟ بمعنى أنها كالقواعد الرجاليّة والنحويّة في ذلك ؟!

فأقول : أمّا بالنسبة إلى الإشكال الأوّل فمن الواضح صحّةُ دخولِها في اللغة وفي علم الأصول ، وذلك لأنّ فيها جهتين ، ولكن بما أنّ هذه المباحث يَدخل فيها ـ دائماً أو غالباً ـ بعضُ المباحث العقليّة كالإطلاق ـ وليس الإطلاقُ من المباحثِ اللُغَوِيّة ـ كان الأحسنُ إدخالَها في علم الأصول ، فإنّ البحث في دلالة الأمْرِ على الوجوب ، كما تُدَّعَى بالتبادر ، تُدَّعَى أيضاً بالإطلاق ، وكذا في قولهم (الجملةُ الشرطيّةُ ظاهرةٌ في المفهوم) فإنّه كما يُدَّعَى الظهورُ بالتبادر ، يُدَّعَى أيضاً بالإطلاق . وأمّا بالنسبة إلى إشكالهم الثاني فجوابُه هو أنه يكفي قُرْبُها جدّاً من الإستـنباط حتى لا تكون من قبيل القواعد الرجاليّة والنحويّة .

وممّا ذكرنا تعرفُ أنّ موضوع علم الأصول هو (القواعد العامّة ـ أي الأدلّة المشتركة ـ التي تكون وسائط قريـبة في عمليّات استـنباط الأحكام الشرعيّة) سواءً كانت تشكّل صغرى في قياس الإستـنباط ـ من قبيل قولهم (الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم) ـ أو كبرَى ـ من قبيل قولِهم (خبر الثقة حجّة) و (الظهور حجّة) ـ ولذلك يصحّ تعريف علم الأصول بأنه (العِلْمُ بالقواعد الممهِّدة لاستـنباط الأحكام الشرعيّة) ، ودورُ الأصوليّ أن يستكشف الصحيحَ منها بقدر وُسْعِه وطاقتِه .

فإن قلتَ : بناءً على ما ذكرتَ يجب إدخالُ القواعد الفقهيّة في علم الأصول ، لأنه يُستـنبَطُ منها أحكام شرعيّة !

قلتُ : القواعدُ الفقهيّة هي أحكامٌ شرعيّة فقهيّة فرعيّة كلّيّة ، يُطبّقُها العامّيُّ في الكثير من الحالات ويطبّقها على الموارد المناسبة ، كما في (لا ضرر) و (لا حرج) و (الأمين لا يضمن إلاّ بالتعدّي أو التفريط) وقواعدِ الفراغ والتجاوز والصحّة في عمل الغَير وقاعدة (اليَدُ أمارةُ الملكيّة) . نعم هناك بعض القواعد الفقهيّة التي يطبّقها خصوصُ الفقيه فقط ، ولا يستطيع العامّيُّ أن يطبّقها لأنها بحاجة إلى الخبرة كما في قاعدة الإمكان ـ وهي قولهم ( إنَّ كُلَّ ما يمكنُ أن يكون حيضاً فهو حيض ) ـ وقاعدة (الإسلامُ يَجِبّ ما قَبْله) وقاعدة (القرعة) وقاعدة (لا تُعاد الصلاة إلاّ مِن خَمْس : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود) ، وهذا لا يعني أنها خرجت من كونها قواعدَ فقهيّة . ولذلك فمراد العلماء من القواعد العامّة ـ المذكورة في تعريف علم الأصول ـ هو كقولهم (خبر الثـقة حجّة) و (البراءةُ حجّة) فهي التي يُستـنبَط منها أحكام شرعيّة فقهيّة كالقواعدِ الفقهيّة ، وأمّا القواعد الفقهيّة فهي لا يُستنبَطُ منها أحكام شرعيّة فقهيّة، وإنما يطبّقها العامّي أو المجتهد على المصاديق الخارجيّة كما عرفتَ.

وبتعبير آخر : حينما يقول علماؤنا (يُستـنبَط) فهم يريدون إفادةَ معنى الإستنباط الحكمي الذي لا يستطيع عليه غيرُ المجتهد ، أمّا القاعدة الفقهيّة ـ كقاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة ـ فالعامّي يراها جاهزةً أمامه ، فيطبّقها على مواردها تطبيقاً سهلاً ، لا اجتهاد فيه ولا بَحْثَ في الأدلّة المحرِزة قبل إجرائها كما يفعل الفقيه في إجراء الطهارة في الشبهات الحكميّة . مثلاً : لا يصحّ للعامّي أن يُجري قاعدةَ الطهارة في مدفوع (الكُنْغُر) ـ الحيوان المعروف في استراليا من فصيلة الكيسيّات ـ ، وإنما المجتهد هو الذي ينظر في الأدلّة المحرزة ويبحث ليعرفَ الكُنْغُر هل هو من مأكول اللحم أم لا ، فإنْ عَجِزَ فإنه يجري فيه أصالة الحلّ ، كما ويجري في مدفوعه أصالةَ الطهارة في الشبهات الحكميّة .

أمّا الأحكامُ الشرعيّة ـ الواردة في تعريف علم الأصول وموضوعه ـ فهي نوعان واقعيّة وظاهريّة :

أمّا الواقعيّة فأربعة أصناف :

الأحكام الواقعيّة الأوّليّة ، مثل (الصلاةُ واجبة) و (شربُ الخمر حرام) و (الأمينُ لا يَضْمَنُ) .

الأحكام الواقعيّة الثانويّة ، مثل (لا ضرر ولا ضرار) و (لا حَرَجَ) .

الحجج الشرعيّة ، مثل (خبر الثقة حجّة) و (الظهور حجّة) .

الاُصول العمليّة ، مثل (قاعدة الحِلّ حجّةٌ) و (قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة) و (البراءةُ حُجّةٌ) و (الإستصحاب بناءً على جريانه في الشبهات الحكميّة هو أيضاً أصلٌ عملي) .

وأمّا الظاهريّة فـصنفان : مؤدّيات الأمارات والوظائف العمليّة

وأمّا الإستصحاب ، فبما أنه يجري في خصوص الشبهات الموضوعيّة ـ لا في الشبهات الحكميّة ـ فهو قاعدة فقهيّة ، لا أصوليّة ، ولذلك يطبّقها العامّي ، ولا يُستـنبط منها حكم شرعيّ . نعم، على القول بأنه يجري في الشبهات الحكميّة أيضاً ، يكون من علم الأصول .

ونفسُ الكلام تماماً يجري في قاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة ، فهي قاعدة فقهيّة ، يُجريها العامّي ، ولا يُستـنبَطُ منها حكم شرعيّ . نعم ، قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة تدخل في علم الأصول .

(3) الأحكام الشرعيّة الوضعيّة :

الحكم الشرعي الواقعي الوضعيّ هو الحكم الكُلّي بالطهارة ـ مثلاً ـ على الشيء الكُلّي ، وكالحكم الكُلّي بالنجاسة على الشيء الفلاني الكُلّي ، وكذلك طهارة هذا الشيء الخارجي ونجاسة ذاك هي أحكامٌ شرعيّة ، وذلك لأنها صدرت من جهة الشرع ، يعني أنّ (الماء النظيف طاهر) هو الحكم الشرعي الوضعي الموجود في عالم الجعل ، وكذلك طهارة هذا الماء النظيف هي حكمٌ شرعي ، حتى وإن كان تطبيقاً للحكم الشرعي الكُلّي الموجود في عالم الجعل . ووصْفُنا لمؤدّيات الأمارات والوظائف العمليّة بأنها أحكام شرعيّة لا يعني أنّ المولى عزّ وجلّ شرّعه مرّة ثانية ، ولا يعني أنها أحكامٌ واقعيّة ، وإنما سمّيناها بذلك لأنها صدرت من قِبَل الحجج الشرعيّة والأصول العمليّة ، وبالتالي صدرت من قِبَلِ الشرع ، فصارت حجّة شرعيّة علينا .

ثم إنّ العلماء يسمّون الطهارةَ والنجاسة والملكيّة والزوجيّة أحكاماً وضعيّة ، لكنهم يقصدون بذلك : الحكم بالطهارة على الشيء الفلاني ، والحكم بالملكيّة على العلاقة الفلانيّة في حال حصول العقد الفلاني أو الأمر الفلاني ، والحكم بالزوجيّة بين الرجل والمرأة في حال حصول العقد الفلاني .. لكنهم تساهلاً وللسرعة في التعبير يقولون كالطهارة والنجاسة وو ..

ما اُريد أن أقوله هو أنّ هذه الألفاظ ليست أحكاماً شرعيّة ، وإنما هي موضوعات أو محمولات للأحكام الشرعية .

(4) واعلم أنّ الأحكام الوضعيّة هي أحكام شرعيّة مجعولة بنحو الإستقلال ، كالأحكام التكليفية تماماً ، فكما يمكن جعْلُ المولى تعالى الصلاةَ واجبة ، يمكن له أن يجعل أحكاماً وضْعِيّة مثل ( مَن حاز مَلَكَ) و (البيّنة حجّة) و (سوق المسلمين أمارة شرعيّة على التذكية والطهارة) .. وإنما جعَلَ اللهُ تعالى هذه الأحكامَ الوضعيّة لتـنظيم حياة الإنسان ، كما في جعْلِ الزوجيّةِ والملكيّة والحريّة والرِّقيّة . ومن البديهي بطلانُ القولِ بعدم كون الأحكام الوضعيّة شرعيّة .

نعم ، ليست الأحكامُ المنتزَعة من المركّبات هي أحكام شرعية أصلاً ، كالجزئيّة والسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة والعِلّيّة ، وذلك لأنّ الباري عزّ وجلّ يتصوّر المركّبات أوّلاً بكلّ مقدّماتها الخارجيّة والداخلية ثم يُنْشِئُ الحكْمَ بلحاظها ، فأنْ يشرّع تشريعاً ثانياً كجزئيّة الركوع والسجود ، وسببيّة الزوال ـ فإنه لا مصلحة للأمر بالصلاة إلاّ بدخول وقت الصلاة ، ولذلك صحّ إطلاق السبب على الزوال ، ولذلك سمّوها مقدّمات الوجوب ـ وسببيّة الإفطار العمدي للكفّارة، وشرطّية الطهارة والإستقبال في الصلاة ـ ولذلك سمّوها مقدّمات الواجب ـ ومانعيّة الحدث والخبث في الصلاة ورافعيّة الرقص لهيأة الصلاة ، أنْ ينشئَ الجزئيّةَ والشرطية والسببية والمانعيّةَ مرّةً ثانية فهذا محضُ لَغْوٍ ، لا يصدر من ساحة الحكمة المتعالية . فحينما شرّع المولى تعالى وجوب الصلاة فهو جلّ وعلا تصوّرَ الصلاةَ بتمام مقدّمات وجوبها ومقدّمات فِعْلِها وأجزائها وموانعها ، ثم شرّع وجوبها . وبعد هذا لا معنى لتشريع الجزئيّة مرّةً ثانية ، وتشريع الشرطيّة مرّة ثانية ... لأنّ التشريع الثاني سوف يكون لَغْواً محضاً .

ولذلك أيضاً ليست الأحكام المنتزعة من الأحكام التكليفية هي أحكام شرعية أصلاً ، فقولُ الباري تعالى[ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى ][1] كاشف عن جعْلِ اللهِ تعالى له حاكماً وقاضياً بين الناس ، وكأنه قال فإنّي جعلته عليكم حاكماً) ، فجعْلُ الحكومةِ للأنبياء والأوصياء أحكام وضعيّة مجعولةٌ بنحو الإستقلال، وليست منـتزَعةً مِنَ الأمْرِ بالحكم [ بين الناس بالحقّ ] .

(5) بعدما عرفت الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة لا بأس أن نَذْكُرَ بعض أمثلة الأحكام الوضعيّة فنقول : (الكلب والخنزير نجسان) حُكْمٌ وضعيّ ، وهكذا قولُنا : (يُشترَطُ في تطهير الآنية من ولوغ الكلب تعفيرُه بالتراب) و (النوم ناقضٌ للوضوء) و (كلام الآدميين عمداً في الصلاة يبطل الصلاة) و (عقد الوكالة يسبّب التوكيل) و (إتلاف مال الغيرِ سبب للضمان) و (عقد الزواج يُنْتِجُ الزوجيّةَ) و (تَرْجِعُ المعتدّةُ بالعدّة الرجعيّة بمجرّد الوطء) و (يشترط في الطلاق أن تكون الزوجة المدخول بها في طهر لم يواقعها فيه) و (الأمارات الفلانيّة حجّة) ... كلّها أحكامٌ وضعيّة .

فإذا عرفتَ هذا فاعلم أننا إن شككنا في حصول سبب الحكم الشرعي الوضعي فالأصل هو عدم حصوله ، فإذا شككنا في حصول النوم أو في عقد الزواج أو في حصول الوطء أو في صدور كلام الآدميين في الصلاة عمداً فالأصل عدمه .

وكذلك الأمر إن شككنا في حصول السبب أو الشرط لترتّب الحكم التكليفي ، فالأصل عدم حصوله ، كما لو شككنا في حصول دلوك الشمس ليترتّب وجوبُ الصلاة ، فالأصلُ عدم دخول الدلوك ، وكما لو فحصنا في مالنا فشككنا بعد الفحص في حصول شرط الحجّ وهو الإستطاعة ، فالأصلُ عدم حصولها ، وكما لو حصل الشكّ في طروء الحيض فالأصلُ عدمه ...

ذكرنا تعرفُ أننا لم نستصحب نفسَ القضايا الشرعيّة ـ وضعيّة كانت أو تكليفية ـ إنما استصحبنا عدمَ الأسباب والشرائط والموانع ، في الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة . والسببُ في عدم جريان الإستصحاب في القضايا الشرعيّة ـ وضعيّةً كانت أو تكليفيّة ـ ما سوف تعرفه في بحث الإستصحاب من عدم جريان الإستصحاب في عالم الجعل ، لأنه بيد الله جلّ وعلا ، وليس بأيدينا ، أو قل : نحن لا نستصحب عدم السببيّة ـ في مرحلة الجعل ـ أو عدم الشرطيّة أو عدم المانعية .

وليس لنا إلاّ أن نُجري عدمَ حصول النوم وعدمَ حصول النجاسة ، أي نستصحب عدم حصول السبب ـ في الخارج ـ أو الشرط أو المانع ، لا أكثر ، وذلك لأنّ الإستصحاب هو أصل عمليّ يتعبّدنا بالبناء على عدم حصول موضوع الحكم الوضعي أو التكليفي ، ولا يفيدنا استصحابَ الأحكام الشرعية في عالم الجعل ، لأنّ الأصل هو عدم الجعل الزائد .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo