< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تـنبـيهات الأخبار العِلاجيّة

[ تـنبـيهات الأخبار العِلاجيّة ]

لو رأينا خبرَين متعارضَين أحدُهما موافِقٌ للعامّة والآخَرُ مخالِفٌ لهم ، وصادف أنْ عَلِمْنا عدمَ صدورِ الخبر الموافق للعامّة من باب التـقيّة ، فهل نُرَجِّحُ الخبرَ المخالفَ للعامّة رغم عِلْمِنا بعدم وجود تـقيّة ، أم ماذا ؟

الجواب : إذا لاحظنا الروايات نرى أنّها ـ في هذا المجال ـ على طائفتين : طائفة يُفهم منها أنّ بعض الروايات الموافقة للعامّة صدرت من باب التـقيّة ، وطائفةٌ يُفهم منها لزومُ مخالفتِهم حتى وإن لم تكن الرواياتُ صادرةً عن تـقيّة ، وإنما كانت صادرةً من جهة العامّة معاندةً للحقّ :

روايات الطائـفة الأولى :

روى في ئل عن الكافي عن علي بن محمد (بن ابراهيم بن أبان الرازي المعروف بـ علاّن الكُلَيني ثقة عين) عن سهل بن زياد (القمّي الرازي أي من الريّ أي الطهراني اليوم) عن (الحسن) ابن محبوب عن علي بن رئاب عن أبي عبيدة (الحذّاء : زياد بن عيسى ، وقيل زياد بن رجا ، كان ثقة حسن المنزلة عند آل محمد (عليهما السلام)، له كتاب) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال لي : ( يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلاً ممَّن يتولاّنا ، بشيءٍ من التـقية ؟ ) ، قال قلت له : أنت أعلمُ ، جُعِلْتُ فِداك ، قال : ( إنْ أَخَذَ به فهو خيرٌ له وأعظمُ أجراً ) ، قال : وفي رواية أخرى : > إن أَخَذ به اُجِرَ ، وإنْ تَرَكَهُ ـ واللهِ ـ أَثِمَ )[1] مصحّحة السند ، فإنّ سهلاً ثقةٌ لتوثيق الشيخ الطوسي له في أصحاب الهادي(عليه السلام) ولرواية الكثير من الأجلاّء عنه ... ولا اعتبار بعد ذلك بقول الشيخ الطوسي عنه في عدّة مواضع (إنه ضعيف) ، وقال عنه جش (ضعيف في الحديث ، غير معتمَد فيه ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب)(إنتهى) ، نعم لا بدّ من الإحتياط بشأن رواياته في مقام الفتوى . المهم هو أنه يُفهم من هذه الرواية أنّه إن أخذ بالخبرِ فقد امتثل لأمْرِ إمامه ، فإمامُه يعلم بمصلحته الخاصّة ، كما لو أمَرَه أن يتوضّأ وضوءَ أهلِ العامّة . إذن قد تصدر بعض الروايات عن الأئمّة (عليه السلام) تـقيّةً.

وفي الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان(موثّق عندي) عن نضر(بن قرواش) الخثعمي (الخزاعي الكوفي الجمّال يوثّق لرواية البزنطي عنه بسند صحيح) قال : سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول : ( مَن عرَف أنّا لا نقول إلا حقّاً فليكْـتَفِ بما يَعلم مِنّا ، فإنْ سمع مِنّا خلافَ ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاعٌ مِنّا عنه )[2] مصحّحة السند ، أي إن سمع كلاماً من المعصوم على زرارة مثلاً فليَعلمْ أنّ هذا دفاع عن زرارة ، وقد يكون دفاعاً عن ناقل الرواية أحياناً . إذن قد تصدر بعض الروايات عن الأئمّة (عليهم السلام) من باب التـقيّة، ومِثْلُها ما بَعدها .

وأيضاً في الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار(مجهول) عن يونس عن داود بن فرقد عن المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيِّهِما نأخذ ؟ فقال : ( خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ ، فإنْ بلغكم عن الحَيِّ فخذوا بقوله ) ، قال : ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( إنّا ـ واللهِ ـ لا نُدْخِلُكُم إلا فيما يَسَعُكم )[3] ضعيفة السند .

وأيضاً في الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي جعفر الأحول (محمد بن علي بن النعمان مؤمن الطاق ثقة كثير العلم) عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : ( لا يَسَعُ الناسَ حتى يسألوا ويتـفقهوا ويعرِفوا إمامهم ، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقيةً )[4] صحيحة السند . إذن قد تصدر بعض الكلمات من أئمّتنا(عليهم السلام) من باب التـقيّة ، ومِثْلُها ما بَعدَها .

وفي الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني(ليس له إلاّ هذه الرواية ، مهمل) قال قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : ( يا أبا عَمْرو ، أرأيتَ لو حدثْتُك بحديث أو أفتيتك بفتيا ، ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيِّهِما كنتَ تأخذ ؟ ) قلت : بأحدثهما ، وأَدَعُ الآخرَ ، فقال : ( قد أصبتَ يا أبا عمرو ، أبَى اللهُ إلا أن يُعبَدَ سِرّاً ، أما واللهِ لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم ، أبَى اللهُ عز وجل لنا في دينه إلا التقية )[5] . يمكن تصحيح متنها من باب رواية الحسن بن محبوب لها ، وهو أحد أصحاب الإجماع .

وفي يب بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة (من شيوخ الواقفة كثير الحديث فقيه ثقة وكان يعاند في الوقف ويتعصّب ، إلاّ أنه جيّد التصانيف نقيّ الفقه حسن الإنـتقاء له كتب) عن الحسن بن أيوب (الظاهر قويّاً أنّ الصحيح هو الحسن بن محبوب لعدّة قرائن وليس الحسن بن أيّوب) عن (عبد الله) ابن بكير (فطحي ثقة) عن عبيد بن زرارة (ثقة ثقة) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( ما سمعتَه مِنّي يُشْبِهُ قولَ الناسِ ففيه التـقيةُ ، وما سمعت مِنّي لا يُشْبِهُ قولَ الناسِ فلا تـقيَّةَ فيه )[6] . إذن قد تصدر بعض الكلمات من أئمّتنا (عليهم السلام) تقيّةً .

روايات الطائفة الثانية ، وهي تـفيد لزومَ الأخْذِ بما خالف العامّة مطلقاً ، أي لا لخصوص التقيّة ، وإنما قد يكون من أسباب لزوم الأخْذِ بما خالف العامّةَ مطلقاً هو وضْعُ العامّةِ لأحاديث مخالفةٍ عمْداً لأقوالِ المعصومين(عليهم السلام) ، فإذَنْ في الطائفة الاُولى كان التغيـير عن الأحكام الواقعيّة مِن قِبَلِ أئمّتنا (عليهم السلام) ، وفي الطائفة الثانية كان التغيـيرُ عن الأحكام الواقعيّة مِن قِبَلِ المنحرفين ، وذلك لشدّة انحرافهم عن دِين الله، وذلك كما ترى في الروايات التالية :

مقبولة عمر بن حنظلة السالفة الذكر ، لاحِظْ بعضَ الروايةِ مرّةً اُخرى : ... قلتُ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاتُ عنكم ؟ قال : ( يُنظَرُ فما وافق حُكْمُه حُكْمَ الكتابِ والسُّنَّة وخالف العامَّة فيؤخذ به ، ويُتركُ ما خالف حُكْمُه حُكْمَ الكتاب والسُّنَّة ووافق العامّة ) ، قلت : جُعِلْتُ فِداك ، إن رأيت إن كان الفقيهان عَرَفا حُكْمَه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخرَ مخالفاً لهم ، بأيِّ الخبرين يؤخذ ؟ فقال : ( ما خالف العامَّةَ ففيه الرشادُ ) ، فقلتُ : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟ قال: ( يُنظَرُ إلى ما هُمْ إليه أمْيَلُ ، حكامَهم وقضاتهم فيُترَكَ ويؤخذَ بالآخر )[7] ، فإنك لا ترى أثراً للتـقيّة في الرواية . تنزّلنا ، فلا أقلّ نـتمسّك بالإطلاق لإثبات الترجيح بمخالفة العامّة مطلقاً ، وهذا الكلامُ جارٍ في الروايات التالية .

في عيون أخبار الرضا عن علي بن أحمد البرقي(مجهول) ومحمد بن موسى البرقي(مجهول) ومحمد بن علي ماجيلويه(مجهول) ومحمد بن علي بن هاشم(مجهول) وعلي بن عيسى المجاور (مجهول) كلهم عن علي بن محمد ماجيلويه(ثقة) عن أحمد بن محمد بن خالد(ثقة) عن أحمد بن محمد السياري(مجهول) عن علي بن أسباط(ثقة ثقة له أصل) قال قلت للرضا (عليه السلام) : يحدث الأمْرُ ، لا أجِدُ بُدّاً مِن معرفـتِه ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحَدٌ أستـفتيه من مواليك؟ قال فقال : ( إئتِ فقيهَ البلدِ فاستـفتِه مِن أمْرِك ، فإذا أفتاك بشيءٍ فخُذْ بخلافه ، فإنّ الحقَّ فيه ) ضعيفة السند ، ورواها الشيخ في يب بإسناده عن أحمد بن محمد البرقي مثله، وبإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن أحمد السياري ، وفي (العلل) عن علي بن أحمد البرقي (وغيرِه) عن علي بن محمد ماجيلويه(ثقة) عن أحمد بن أبي عبد الله (البرقي ثقة) عن علي بن أسباط نحوه[8] . وهذا السندُ صحيح ، لأنّ الخمسة الأوائل الذين يروي عنهم الصدوق لا يمكن أن يكونوا كلُّهم كذّابين . وهذا الحديث يدلّ بوضوح أنهم كانوا يغيّرون أحكامَ اللهِ عمداً .

وفي العلل أيضاً عن أبيه عن أحمد بن إدريس عن أبي إسحاق الأرجاني رفعه قال قال أبو عبد الله(عليه السلام) : ( أتدري لِمَ اُمِرْتُم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة ؟ ) فقلت : لا أدري ، فقال : ( إنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) لم يكن يُدِينُ اللهَ بدِينٍ إلا خالفَتْ عليه الأمَّةُ إلى غيره إرادةً لإبطال أمْرِه ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضِدّاً من عندهم ليلتبسوا على الناس )[9] ، وهي صريحة فيما نريد إثباتَه.

وفي رسالةِ سعيد بن هبة الله الراوندي بإسناده المذكور قبل قليل عن أبي جعفر ابن بابويه عن أبيه عن سعد (بن عبد الله) عن أحمد بن محمد عن (محمد) ابن أبي عمير عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( ما أنتم ـ واللهِ ـ على شيء مما هم فيه ، ولا هم على شيء مما أنتم فيه ، فخالِفوهم ، فما هُمْ مِنَ الحنيفيَّةِ على شيء )[10] .

وبعدما عرفتَ تماميّةَ كلتا الطائفتين ـ سنداً ودَلالةً ـ تعرفُ أنّ الميزان في ترجيح الروايات المخالفة لهم هو مطلق المخالفة ، سواءً كانت صادرةً عن تـقيّة أوْ لا .

3 ـ ما هو الموقف الشرعي في حال التعارض المستـقرّ بين مدلولَي روايتين متعارضتين بنحو العموم من وجه ؟ فقد ورد في صحيحة عبد الله بن سنان ( إغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمُه ) ، وورد في صحيحة أبي بصير ( كل شيء يطير فلا بأس بخُرئه وبوله ) ، فيقع التعارضُ في خُرْء وبول الطير الذي لا يؤكل لحمه ؟

الجواب : لا شكّ أنك تعلم أنه لا يمكن الرجوع هنا إلى ميزان مخالفة العامّة ، لأننا إذا رجعنا إلى مخالفة العامّة فإننا سوف نُسقِطُ كلّ الرواية الموافقة لهم ـ سواءً صدرت المخالفة للواقع من الأئمّة (عليهم السلام) للتقيّة أو مِنَ العامّة لمخالفتنا ـ وهذا لا يقول به العلماء ، ولا داعي له ولا دليل عليه بعد صحّة سندَي كلتا الروايتين ، ولذلك كان المعروف هو الرجوع في منطقة الإلتقاء إلى الأصول العمليّة ، كالطهارة في مثالنا المذكور .

توضيحُ ذلك : المفروض أنّ كلتا الروايتين صحيحتا السند ، ولا يمكن إسقاطُ إحدى الروايتين الصحيحتين إلاّ بدليل قطعي ، ولا دليل قطعي على جواز إسقاط كلّ الرواية الموافقة للعامّة بمجرّد المخالفة الجزئيّة ، وإنما قد يُدَّعَى أنّ المتبادَر إليه من روايات الترجيح بمخالفة العامّة هو حالة وجود تعارض مستقرّ بلحاظ كلّ الروايتين ـ مثل (ثمن الكلاب الثلاثة سحت) و (بيعها جائز) ـ لا بعضهما ـ كما في مثال ذرق الطائر السالف الذكر ـ . إذن فمجرّدُ التعارضِ الجزئيّ بينهما ، يَخلق شكّاً في جواز إسقاط إحدى الروايتين الصحيحتين، ولذلك يجب العمل بالقدر المتيقّن ، وهو التساقط في محلّ الإلتقاء فقط لا غير ، وبالتالي يجب الرجوعُ فيه إلى الأصول العمليّة [11] .

 

وبذلك ينتهي القسمُ الثاني من قِسمَي عِلم الأصول ، وغداً إن شاء اللهُ تعالى نبدأ بتعريف علم الأصول وموضوعه ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد وآله الأطيبين الأنجبين.


[11] يجب أن اُسجّل هنا أنّ اليوم هو ذِكرى اسبوع الشهيد والقائد الكبـير الحاج علي أحمد فيّاض (علاء البُوسْـنَة) الذي بكاه كلّ مَن يعرفه من المؤمنين في العالَم، بل بَكَـتْـهُ السماءُ دَماً واحـتـضنه الأنبـياء والملائكة والصالحون، هنيئاً لك الشهادة يا علاء (26 جمادَى الاُولى 1437 هـ الموافق لـ 6 / 3 / 2016 م).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo