< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : كلام الشيخ الطوسي في التعارض

ذكرنا في الدرس السابق كلام الشيخ الطوسي في التعارض وغيره ، ونتابع كلامه اليوم فنقول : قال :

فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضَمَّنِ أخبارِ الآحاد ، ولا تَدِلُّ على صحتها (في) أنفسها لما بيَّـنّا مِن جواز أن تكون الأخبار مصنوعة (أي موضوعة حتى) وإنْ وافقت هذه الأدلةَ ، فمتى تجرد الخبرُ عن واحد من هذه القرائن كان خبرَ واحدٍ محضاً ، ثم يُنظَرُ فيه : فإنْ كان ما تضمَّنَه هذا الخبرُ ، هناك ما يدل على خلاف متضمَّنِه من كتاب أو سُنَّة أو إجماع وجب اطِّراحُه والعملُ بما دل الدليلُ عليه ، وإن كان ما تضمَّنَه ليس هناك ما يدل على العمل بخلافه ولا يُعرف فتوى الطائفة فيه ، نُظِرَ :

فإنْ كان هناك خبرٌ آخر يعارِضُه مما يجري مجراه وجب ترجيحُ أحدِهما على الآخر ، وسنبيِّنُ مِن بعدُ ما يرجح به الأخبار بعضها على بعض ،

وإن لم يكن هناك خبر آخر مخالفه (الظاهر : يُخالِفُه) وجب العملُ به ، لأنّ ذلك إجماعٌ منهم على نقله ، وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه ، فينبغي أن يكون العمل به مقطوعاً عليه ، وكذلك إنْ وُجِدَ هناك فتاوى مختلفةٌ من الطائفة ، وليس القول المخالفُ له ، مستـَنِداً إلى خبرٍ آخر ، ولا إلى دليل يوجب العِلْمَ وجب اطِّراحُ القولِ الآخر والعملُ بالقول الموافق لهذا الخبر (الأوّل) ، لأنّ ذلك القولَ لا بُدَّ أن يكون عليه دليل ، فإذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته ، ولسنا نقول بالإجتهاد والقياس يُسنَدُ ذلك القولُ إليه، ولا هناك خبر آخر يضاف إليه ، وجب أن يكون ذلك القول (الثاني) مطروحاً ، ووجب العمل بهذا الخبر (الأوّل) ، والأخْذُ بالقول الذي يوافقه .

وأما القرائنُ التي تدل على العمل بخلاف ما يتضمَّنُه الخبرُ الواحدُ ، فهو أن يكون هناك دليل مقطوعٌ به من كتاب أو سُنَّةٍ مقطوعٍ بها أو إجماعٍ مِنَ الفِرقة المحقَّة على العمل بخلاف ما تضمَّنَه ، فإنّ جميع ذلك يوجب ترْكَ العملِ به ، وإنما قلنا ذلك لأنّ هذه الأدلَّةَ توجب العِلْمَ ، والخبرُ الواحدُ لا يوجب العِلْمَ ، وإنما يقتضي غالبَ الظنِّ (أقول : خبر الثقة حجّة حتى ولو لم يفد الظنّ ، وإنما أعطى اللهُ تعالى الحجيّة لخبر الثقة لأنّ أغلب أخبار الثقات تصيب الواقع ، لا لأنّ كلّ خبر ثقة يفيد الظنّ) ، والظنُّ لا يقابلُ العِلْمَ ، وأيضاً فقد رُوِيَ عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا : ( إذا جاءكم عَنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسُنَّةِ رسوله (ص) فإنْ وافقهما فخُذُوا به ، وما لم يوافقهما فرُدُّوه إلينا ) فلأجل ذلك رددنا هذا الخبر ، ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه لأنه لا يمتـنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحاً وله وجهٌ من التأويل لا نقف عليه ، أو خرج على سبب خَفِيَ علينا الحالُ فيه أو تناول شخصاً بعينه ، أو خرج مخرج التقية وغيرُ ذلك من الوجوه ، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه ، وإنما يجب الإمتناع من العمل به حسبما قدمناه .

فأمّا الأخبارُ (يقصد المعتبرة الأسانيد) إذا تعارضت وتقابلت ، فإنه يُحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيحُ يكون بأشياء :

منها : أن يكون أحد الخبرين موافقاً للكتاب أو السُّنَّة المقطوعِ بها ، والآخرُ مخالفاً لهما ، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترْكُ العملِ بما خالفهما .

وكذلك إن وافق أحدُهما اجماعَ الفرقة المحقة ، والآخرُ يخالفُه ، وجب العمل بما يوافق إجماعَهم ويُترَك العملُ بما يخالفه .

فإنْ لم يكن مع أحد الخبرين شيءٌ من ذلك ، وكانت فتيا الطائفة مختلفةً ، نُظِرَ في حال رواتهما ، فما كان راويه عدْلاً وجب العمل به وتَرْكُ العملِ بما لم يروه العدلُ ، وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب . (وهذا يعني تقديمَ الرواية الصحيحة على الرواية الموثّقة ، وهذا ممكن جدّاً ، ولكن لا دليل عليه) .

فإن كان رواتهما جميعاً عَدْلين ، نُظِرَ في أكثرهما رواةً فعُمِلَ به وتُرِكَ العملُ بقليل الرواة ، (هذا الكلام ممكن الصحّة جدّاً ، ولكن لا دليلَ عليه أيضاً ، إلاّ إذا أورثتِ الكثرةُ الإطمئنانَ) ،

فإن كان رواتُهما متساويَين في العدد والعدالة ، عُمِلَ بأبْعَدِهما مِن قولِ العامَّةِ ويُترَكُ العملُ بما يوافقهم . (هذا صحيح بإجماع الطائفة) .

وإنْ كان الخبران يوافقان العامَّة أو يخالفانها جميعاً نُظِرَ في حالهما : فإنْ كان متى عُمِلَ بأحد الخبرين أمكن العملُ بالخبر الآخر على وجهٍ من الوجوه وضربٍ من التأويل ، وإذا عُمِلَ بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر (كما إذا جاءنا خبر يقول (في حال الشكّ بالطهارة ولم يكن هناك حالة سابقة فابْنِ على الطهارة) ، وجاءنا خبر آخر يقول (في حال الشكّ بالطهارة وكان هناك حالة سابقة فابْنِ على بقاء الحالة السابقة)، ثم شككنا في طهارة ماء الخزّان الموجود على السطح ، فبنينا على طهارته لعدم علمنا بالحالة السابقة للماء ، وكان عندنا ثوب متنجّس ، فغسلنا الثوبَ بماء الخزّان الذي بَنَينا على طهارته بقاعدة الطهارة ، فإننا بذلك نُلغي العملَ باستصحاب نجاسة الثوب في هكذا حالة فقط ، ولا نكون قد ألغينا الإستصحابَ من أصله ، أمّا لو استصحبنا بقاءَ نجاسة الثوب ـ رغم غسْلِه بالماء المبنيّ على طهارته بقاعدة الطهارة ـ فإنّ هذا يعني إلغاءَ قاعدةِ الطهارة من الأصل ، لأنّ قاعدة الطهارة ستكون بلا فائدة أصلاً ، فإذن الأوّلُ هو الصحيح لأنّ إجراء قاعدة الطهارة لم تُلغِ الإستصحابَ من الأصل ، أمّا لو أجرينا الإستصحابَ فإننا نكون قد ألغينا قاعدةَ الطهارة الشرعيّة من الأصل ، ويسمّون قاعدة الطهارة هنا بالأصل السببي ، والإستصحاب بالأصل المسبَّبي ، ففي هكذا حالةٍ :) وجَبَ العملُ بالخبر الذي يمكن مع العمل به العملُ بالخبر الآخر ، لأنّ الخبرين جميعاً منقولان مجمعٌ على نقلهما ، وليس هناك قرينةٌ تدل على صحة أحدهما ، ولا ما يرجَّحُ أحدُهما به على الآخر ، فينبغي أن يُعمل بهما إذا أمكن ، ولا يُعمل بالخبر الذي إذا عُمِلَ به وجب اطِّراحُ العملِ بالخبر الآخر . وإن لم يمكن العمل بهما جميعاً لتضادِّهِما وتنافيهما وأمكن (هذا مِن سَهْوِ القَلَمِ ، والصحيحُ : ولم يمكن) حمْلُ كلِّ واحدٍ منهما على ما يوافق الخبرَ الآخر على وجه ، كان الانسانُ مخَيَّراً في العمل بأيِّهِما شاء . (أقول: لا دليل على صحّة التخيـير) .

وأما العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر فهو أن يكون الراوي معتقداً للحقّ ، مستبصِراً ، ثِقَةً في دِينه ، متحَرِّجاً مِنَ الكذب غيرَ متَّهَمٍ فيما يرويه ، فأمّا إذا كان مخالفاً في الإعتقاد لأصل المذهب ورَوَى مع ذلك عن الأئمة (عليهم السلام) نُظِرَ فيما يرويه : فإن كان هناك مِن طُرُقِ الموثوقِ بهم ما يخالفه وجب اطِّراحُ خَبَرِه ، وإن لم يكن هناك ما يوجب اطِّراحَ خَبَرِه ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به ، وإن لم يكن من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ، ولا يعرف لهم قول فيه ، وجب أيضاً العمل به ، لما رُوِيَ عن الصادق (عليهم السلام) أنه قال : ( إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رُوِيَ عَنّا فانظروا إلى ما رَوَوه عن عليّ (عليهم السلام) فاعملوا به ) ، ولأجْلِ ما قلناه عملت الطائفةُ بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرُهم من العامّة عن أئمتنا(عليهم السلام) فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه .

وأمّا إذا كان الراوي من فرق الشيعة مثل الفطحية والواقفة والناووسية وغيرهم نُظِرَ فيما يرويه : فإن كان هناك قرينةٌ تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم ، وجب العملُ به ، وإن كان هناك خبر آخر يخالفه من طريق الموثوقين ، وجب اطراح ما اختصوا بروايته والعمل بما رواه الثقة (أي يجب تقديم الرواية الصحيحة على الرواية الموثّقة ، وليس على كلامه دليل إلاّ إذا ادّعى سيرة المتشرّعة ، ولم تَثبت عندنا) ، وإنْ كان ما روَوه ليس هناك ما يخالفه ولا يُعرَفُ من الطائفة العملُ بخلافه ، وجب أيضاً العمل به إذا كان متحرِّجاً في روايته موثوقاً في أمانته ، (حتى) وإن كان مخطئاً في أصل الإعتقاد ، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم ، فيما لم يكن عندهم فيه خلافه .

وأمّا ما ترويه الغُلاةُ والمتَّهَمُون والمضَعَّفُون وغيرُ هؤلاء ، فما يختص الغلاةُ بروايته ، فإن كانوا ممن عُرِفَ لهم حالُ استـقامةٍ وحالُ غُلُوٍّ ، عُمِلَ بما رَوَوه في حال الإستـقامة ، وتُرِكَ ما رَوَوه في حال تخليطهم خطأهم (الظاهر : وخَطَئِهم) ، ولأجل ذلك عملت الطائفةُ بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استـقامته وتَرَكوا ما رواه في حال تخليطه (أقول : لم يَثبت في الآيات والروايات إلاّ ميزانُ الوثاقة ـ لا الإستـقامة في الإعتقاد ـ فإن كان ثقةً صادقاً كان نقْلُه حجّةً وإلاّ فلا) ، وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي عذاقر وغيرِ هؤلاء . فأمّا ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال (لم أعرف لماذا ، فإنّ فرْضه هو كونُهم ثقات ، فتخليطُهم في المذهب لا يضرّ في حجيّة نقلهم بدليل ما قاله قبل قليل إلاّ إذا كان تخليطهم المفروض يخدش عرفاً وعقلائيّاً في وثاقتهم) . وكذلك القول فيما يرويه المتَّهَمُون والمضَعَّفون . وإن كان هناك ما يعضد روايتَهم ويَدِلُّ على صحتها وجب العمل به . وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في أخبارهم ، ولأجل ذلك توقف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها ولم يرووها واستـثـنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من التصنيفات ، فأمّا مَن كان مخطئاً في بعض الأفعال أو فاسقاً بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته ، متحرِّزاً فيها ، فإنّ ذلك لا يوجب ردَّ خبرِه ، ويجوز العمل به لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه ، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قَبِلَتِ الطائفةُ أخبار جماعةٍ هذه صفتهم .

فأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يقتضي الحظر والآخَرَ الإباحةَ (كما لو ورد خبران ، أحدهما يقول "ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت ، فأما الصيود فلا بأس)، والآخر يقول إنّ بيع كلب الماشية وكلب الزرع وكلب الحائط جائز ، ولا يمكن الجمع بينهما) والأخْذ بما يقتضيه الحظر أولى أو الإباحة ، فلا يمكن الإعتماد عليه على ما نذهب إليه في الوقف (يظهر أنه يقول بأصالة الإحتياط والتي يعبّر عنها الشهيد الصدر بمسلك حقّ الطاعة) ، لأنّ الحظر والإباحة عندنا مستفادان بالشرع فلا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا التوقف فيهما جميعاً ، أو يكون الإنسان فيهما مخيَّراً في العمل بأيِّهِما شاء . (أقول : لا شكّ في أنك إن أردت الإحتياطَ فعليك أن تترك بيع الكلاب الثلاثة ، لا أن تتخيّر بين الشراء وعدمه) .

وإذا كان أحد الراويين يروي الخبر بلفظه والآخَرُ بمعناه يُنظَرُ في حال الذي يرويه بالمعنى ، فإنْ كان ضابطاً عارفاً بذلك فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، لأنه قد أُبيح له الرواية بالمعنى واللفظ معاً فأيُّهما كان أسهل عليه رواه . وإن كان الذي يروي الخبرَ بالمعنى لا يكون ضابطاً للمعنى أو يجوز أن يكون غالطاً فيه ، ينبغي (فينبغي ـ ظ) أن يؤخذ بخبر مَن رواه باللفظ .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo