< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : لو تعارَضَ خبرُ ثِـقةٍ مع خبر ثـقةٍ آخَر

لو تعارض خبرُ ثِـقةٍ مع خبر ثـقة ، وفي هكذا حالة لكي نعرفَ الموقفَ الشرعي ، علينا أن ننظر إلى أهمّ الروايات المشهورة التي رواها علماؤنا وهي :

روَىَ قطب الدين الراوندي[1] في رسالته التي ألَّفَها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها عن محمد وعليّ(فقيه ثقة) ابنَي علي[2] بن عبد الصمد عن أبيهما (عالم جليل فقيه) عن (الإمام الزاهد الثقة) أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه (الشيخ الصدوق) عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب بن نوح (ثقة) عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (ثقة) قال قال الصادق (عليه السلام) : ( إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتابَ الله فخُذُوه ، وما خالف كتابَ اللهِ فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارَهم فذَرُوه ، وما خالف أخبارَهم فخُذُوه )[3] صحيحة السند ، وهي تامّةُ الدلالة على الترجيح بالكتاب الكريم أوّلاً ثم بمخالفة العامّة ثانياً .

وروى في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازَعَةٌ في دَين أو ميراث فتحاكما .. إلى أن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرَين في حقِّهما واختُلِف فيما حَكَما ، وكلاهما اختَلفا في حديثكم ؟ فقال : ( الحُكْمُ ما حَكَمَ به أعدلُهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يُلتـفَت إلى ما يحكم به الآخر ) قال فقلت : فإنهما عَدْلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال فقال : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتِهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : "حلالٌ بيِّنٌ ، وحرامٌ بيِّنٌ ، وشبُهاتٌ بين ذلك ، فمَن ترَكَ الشبهاتِ نجا من المحرمات ، ومَن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يَعلم .. ) ، قلتُ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ( ينظر فما وافق حكمه حُكْمَ الكتابِ والسُّنَّة وخالف العامَّة فيؤخذ به ويتركُ ما خالف حُكْمُه حُكْمَ الكتاب والسُّنَّة ووافق العامّة ) ، قلت : جُعِلْتُ فِداك ، إن رأيت إن كان الفقيهان عَرِفا حُكْمَه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخرُ مخالفاً لهم ، بأيِّ الخبرين يؤخذ ؟ فقال : ( ما خالف العامَّةَ ففيه الرشادُ ) ، فقلتُ : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟ قال : ( يُنظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ ، حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر ) ، قلت : فإنْ وافق حكامهم الخبرين جميعاً ؟ قال : ( إذا كان ذلك فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ مِنَ الإقتحام في الهلكات )[4] وهي مقبولة السند .

وهي تفيدنا ما يلي : (1) وجوب تقديم حُكْمِ ( أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يُلتـفَت إلى ما يحكم به الآخر ) ، فالترجيحُ أوّلاً كان ناظراً إلى الحَكَم ـ لا إلى الراوي ـ ، فإنْ تساويا من هذه الجهة (2) ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمعَ عليه لا ريب فيه ) أي يؤخذ بالرواية التي اجتمع عليها أكثرُ العلماء ، أي عملاً وفتوى ، ولو لشهرتها الروائيّة ، فإن تساويا من هذه الجهة فإنه (3) ( يُنظَرُ ، فَما وافق حُكْمُه حُكْمَ الكتابِ والسُّنّة وخالف العامّةَ فيؤخذ به ويُترَكُ ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامَّة ) فإنّ ( ما خالف العامةَ فيه الرشادُ ) ، فإن تساويا من هذه الجهة أيضاً فإنه (4) ( يُنظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر ) ، فإن تساويا من هذه الجهة أيضاً (5) ( فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ) أي إعمل بالإحتياط .

إذن صحيحةُ عبد الرحمن بن أبي عبد الله ذكرَتْ الترجيحَ بكتاب الله أوّلاً ، ثم بمخالفة أخبار العامّة ، وأمّا هذه المقبولة فإنها تَذْكُرُ أوّلاً الترجيحَ بصفات الحاكم ، ثم الترجيحَ بشهرة الرواية ، ثم الترجيح بالكتاب والسُّنَّة ، ثُمّ بمخالفة العامّة ، إذن فالمقبولةُ تقيّدُ إطلاقَ صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، بمعنى أنها تدلّ على أن الإنتهاء إلى الترجيح بكتاب الله ومخالفة العامّة يكون بعد عدمِ وجود أرجحيّة بلحاظ صفات الحاكم ولا أرجحيّة بلحاظ شهرة الرواية . والنتيجةُ العمليّة للجمع بين الروايتين هو : (1) الترجيح بصفات الحاكم ، (2) الترجيح بشهرة الرواية ، (3) مخالفة العامّة .

ثم إنه يمكن القولُ بأنّه يُفهم من خلال الرواية أنّ الحاكِمَ ـ خاصّةً في عصرهم (عليهم السلام) ـ ليس إلاّ راوياً ومطبّقاً للرواية على المورد ، كما هو ظاهر الرواية ، وبالتالي المناطُ بين الحاكم وبين الراوي واحد ، أو أنّ هذا عَينُ ذاك ، فإذا قلنا بهذا فهذا يعني أنّ الترجيح هو بصفات رواة الرواية ، وذلك لعدم الفرق بين الراوي الأخير ـ وهو الحاكم ـ وبين سائر أفراد رواة السند .

أقول : لكنَّ الجَزْمَ بذلك صعب ، بعد عدم وضوح المراد في ذلك ولا وضوح وحدة المناط بينهما ، فإنّ لكلّ حاكم نظَرُه في كلّ القضايا ، والحاكمُ الأعلمُ قد يميّز بين الرواية الصحيحة التطبيق في هذا المورد وبين الرواية الباطلة ، خاصّةً إذا كان أعرفَ بالرواة من الحاكم الآخر وبصحّة المتون وصدورها وبكيفيّة الجمع بين الروايات وبأمور كثيرة قد تكون دخيلة في الواقعة ، لذلك كان من الحكمة أن يُقتصَرَ في هذا الترجيح بين خصوص الحاكمَين فقط ، لا بين الراويين أيضاً . أمّا في الروايتين المعتبرتين المتعارضتين تعارضاً مستقرّاً فقد يكون من الباطل أن نقدّم الصحيحةَ السند على المقبولة أو الموثّقة أو المعتبرة ، بعد اعتبارها جميعاً شرعاً ، لا بل قد يروي فقيهُ عصرِه بعض الروايات المنسجمة مع فتاوى أهل العامّة حفاظاً عليه من أئمّتنا ، كما نرى ذلك بوضوح في الكثير من الروايات ، أكتفي ببعض الروايات التي تخالف المسلّم بين علماء الطائفة وتعارض الروايات المستفيضة جداً :

ـ فقد روى في التهذيب عن الحسين بن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي نجران (ثقة ثقة معتمد على ما يرويه) عن عاصم بن حَمِيد(ثقة عين صدوق) عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الجِرّيّ والمارْماهي والزمّير وما ليس له قشر من السمك أحرام هو ؟ فقال لي : ( يا محمد ، إقرأ هذه الآية التي في الأنعام [ قُلْ لا أجدُ فيما اُوحِيَ إلي مُحَرَّماً ] ) قال: فقرأتها حتى فرغت منها ، فقال : ( إنما الحرام ما حرم الله ورسولُه في كتابه ، ولكنهم قد كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها ) وهي من الصحيح الأعلائي !!

ـ ورَوَى في التهذيب باسناده ـ الصحيح ـ عن الحسين بن سعيد عن صفوان(بن يحيى ، من أصحاب الإجماع ، ثقة ثقة عين) عن (عبد الله)ابنِ مُسْكان(من أصحاب الإجماع) عن محمد(بن علي بن أبي شعبة) الحلبي (وجه أصحابنا وفقيههم والثقة الذي لا يطعن عليه) قال قال أبو عبد الله(عليه السلام) : ( لا يُكره شيء من الحيتان الا الجِرّيّ ) صحيحة السند جداً ، وهي صريحة في حلّيّة السمك الذي لا فَلْس له بشمولها العمومي ، بل صريحةٌ في عدم الكراهة .

ـ وفي التهذيب أيضاً عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن عمر بن أذَينة(ثقة) عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجِرّيث ، فقال : وما الجِرّيث ؟ فَنَعَتُّه له فقال ( [قل لا أجد فيما اُوحِيَ إليَّ مُحَرّماً على طاعِمٍ يَـطْعَمُهُ ..] ) إلى آخر الآية ثم قال : ( لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ شيئاً من الحيوان في القرآن الا الخنزيرَ بعينه (!) ، ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق ، وليس بحرام ، إنما هو مكروه ) صحيحة السند جداً .

ولهذا لا نتجرّأ على الترجيح بالرواة إبتداءً فيما لو تعارضت الروايات المعتبرة السند .

وقد يُعترَضُ على استفادة هذين الترجيحين ـ بالصفات وبالشهرة ـ من المقبولة بوجوه :

الأول : إنّ المقبولة مختصة مورداً بعصر الحضور والتمكن من لقاء الإمام (عليه السلام) بقرينة قوله فيها ) فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ( فلا تدل على ثبوت الترجيحين في عصر الغَيبة .

ونلاحظ على هذا الوجه أنّ اختصاص الفقرة الأخيرة التي تأمر بالإرجاء بعصر الحضور لا يوجب تقيـيد الإطلاق في الفقرات السابقة ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ التمكن من لقاء الإمام ليس من الخصوصيات التي يَحتمل العرفُ دخْلَها في مُرَجِّحِيَّة الصفات ، إذ لا يختلف حال الأوثقية في كاشفيتها وتأكيد موردها بين عصرَي الحضور والغَيبة ، وكذلك الأمْرُ في الشهرة .

 


[1] هو الفقيه المحدث والمفسر الكبير المولى سعيد بن هبة الله المشهور بـ قطب الدين الراوندي رحمه الله المتوفى سنة 573 هجرية، قبرُه في وسط صحن مقام السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في قم المقدسة، أعني الصحنَ الكبير الذي كان يصلّي فيه المرجع السيد المرعشي النجفي.
[2] هو علي بن عبد الصمد (كان حَيّاً سنة 474 هـ) ابن محمد التميمي، أبو الحسن النيسابوري السبزواري، تلميذ الشيخ الطوسي . كان أحد فضلاء علماء الإمامية، فقيهاً ديِّناً . قرأ كتابَ (الأمالي) للشيخ الصدوق على أبي بكر محمد بن أحمد في سنة 423 هـ، وقرأه أيضاً على أبي البركات علي بن الحسين الحسيني الحلي في سنة 426 هـ . وروى عن جمع من تلامذة الشيخ الصدوق، منهم : أبوه عبد الصمد وأبو البركات الحسيني وأبو بكر محمد بن علي العمري وأبو جعفر محمد بن إبراهيم بن عبد الله المدائني .. رَوَى عنه ولداه : محمد وعلي . وقرأ عليه أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن الحسين القمي أمالي الشيخ الصدوق في سنة 474 هـ . مصدرُ هذه المعلومات : موسوعةُ طبقات الفقهاء ج5 في القرن الخامس، تأليف اللجنة العِلْمِيّة في مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) إشراف العلاّمة الفقيه جعفر السبحاني.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo