< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إستثناءً : تغسيل الشهيد

قد عرفت سابقاً وجوبَ تغسيلِ كلِّ مسلمٍ ، لكن يستثنَى من ذلك طائفتان :

إحداهما : الشهيد المقتول في المعركة عند الجهاد في سبيل الله ـ كـقتال المؤمنين اليوم في سوريا والعراق واليمن ـ تحت راية سلطان عادل أو وكيلِه إنْ لم يدركه المسلمون حيّاً فلا يجب تغسيلُه ، وإنما يُدْفَنُ بثيابه ، إلاّ إذا كان عارياً فإنه يُكَفَّن ولا يغسّل ويصلّى عليه ويُدْفَنُ، وأمّا إذا أدركه المسلمون حيّاً ثم مات فهذا يغسّل ويحنّط ويكفّن بالنحو المعروف . وكلّ مَن قُتِلَ في سبيل الله يأخذ حكم الشهيد الذي لا يغسّل إن لم يدركه المسلمون حيّاً ، كالمقتولِ خطأً في معركة الحقّ ـ أي قتله صاحبُه خطأً ـ فإنه شهيد يأخذ نفس الأحكام المذكورة، وكالمقاتل الذي يكون في المعركة ولكنه يكون في الخطوط الخلفيّة ، وكذا كلّ إنسان يساعد المجاهدين في تهيئة الطعام أو إيصاله أو في غسل ثيابهم أو في تمريضهم أو في تصليح سلاحهم ، رجلاً كان أو امرأة أو صبيّاً مميّزاً ، فهؤلاء إذا قُتِلوا وهم في أجواء المعركة ـ أي حتى ولو كانوا خلف الجبهة ـ فإنهم يكونون شهداءَ لأنهم قتلوا في سبيل الله ، ويأخذون كلّ أحكام الشهداء المذكورة . أمّا مَن وقعت عليه قذيفةٌ مِنَ الأعداء ولم يكن بصدد القتال ، فلا يأخذ هذه الأحكام في الدنيا ، حتى وإن كان مؤمِناً بهذا الخطّ تماماً ، ومثله الصبيّ والمرأة والمجنون الذين يقتلهم العدوّ وهم ليسوا بصدد القتال في سبيل الله ، وكذا المقاتل إذا كان راجعاً إلى بيته وقد خرج من أجواء المعركة ـ أي ابتعد عن ساحة المعركة ـ ووقعت عليه قذيفةٌ مثلاً فإنه يجب تغسيله .

وقد يُقتَلُ جماعةٌ من المجاهدين في ساحة المعركة ، واحدٌ تلو الآخر ، ويشاهِدُ أحدُهم الآخَرَ ، لكنهم بعد ساعةٍ مثلاً يموتون جميعاً من دون إدراك المسلمين لهم أحياءً ، وإنما أدركوهم أمواتاً ، فهؤلاء يأخذون حُكْمَ الشهداءِ فلا يغسَّلون ، وهم بمثابة شهداء كربلاء الذين أدرك بعضُهم بعضاً ، لكنهم ماتوا جميعاً ولم يدرِكْهُم من المسلمين أحدٌ لا الإمام زين العابدينt ولا السيدة زينب uولا غيرُهم من المؤمنين ، ولذلك لا يغسَّلون ، وإنما يُدفَنون في أثوابهم بدمائهم . فالعبرةُ إذن بالمجموعة المقتولة في سبيل الله من حيث هم مجموعةٌ واحدة ، فلا يضرّ أنْ يُدْرِكَ بعضُهم بعضاً ، ولكنّ العبرةَ أنّ هذه المجموعة الشهيدة من حيث هم مجموعة واحدة لم يدركهم أحدٌ وفيهم رمق ، لذلك لم يغسّلهم الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وكذلك لم يغسّل عبدَ الله الرضيع وسائرَ الأطفال غير البالغين ، لصدق أنهم شهداء . وأمّا من مات ميتة ربّه في ساحة المعركة فإنه يغسّل لأنه لم يقتل .

ذكرنا الأدلّة على كلّ ما قلناه ، ونزيد الآن أنه روى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن علي بن معبد عن الدهقان عن درست (بن أبي منصور واسطي واقفي ثقة عندي) عن أبي خالد (القمّاط : يزيد ، كوفيّ ثقة له كتاب يرويه عنه صفوان) قال : اِغسلْ كلَّ شيء من الموتى : (الغريق وأكيل السبع وكل شيء إلا ما قُتِلَ بين الصفين ، فإنْ كان به رَمَقٌ غُسِّلَ وإلا فلا) [1] . لكن لم يُعلم أنّ هذا الكلام هو رواية .

وأخيراً لا بأس بذكر ما وجدتُه من كلمات علمائنا الأقدمين ، وهما على طائفتين :

الأولى : 1 ـ في (فقه الرضا) : (وإن كان الميتُ قتيلَ المعركة في طاعة الله ، لم يغسل ودفن في ثيابه التي قتل فيها بدمائه ، ولا ينزع منه من ثيابه إلا مثل الخف والمنطقة والفروة وتحل تكته ، وإن أصابه شيء من دمه لم ينزع عنه شيءٌ إلا أنه يحل المعقود ولم يغسل ، إلا أن يكون به رمق ثم يموت بعد ذلك ، فإذا مات بعد ذلك غسل كما يغسل الميت ، وكفن كما يكفن الميت ، ولا يترك عليه شيء من ثيابه)(إنتهى) [2] ، أي أنه إن أدركوه ميِّتاً فلا يغسّل .

2 ـ ومثله قال القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (400 ـ 481 هـ) في كتابه (المهذب) فاشترط في عدم التغسيل عدم وجود الرمق عندما أدركه المسلمون ، فقال : (وأما من لا يغسل فهو كل شهيد يقتل بين يدي الإمام العادل أو من نصبه الإمام ـ في نفس المعركة ـ ولم يلحق وبه رمق لا شيء من الحياة ، وهذا يدفن معه كل ما أصابه دمه من لباسه إلا الخفين ، وقد ورد أنهما إذا أصابهما شيء من دمه دفن معه)(إنتهى) [3] .

والطائفة الثانية :

1 ـ قال الشيخُ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي (المتوفى سنة 448 هـ) في كتابه (المراسم العلوية في الأحكام النبوية) ص 45 : (المقتول في المعركة لا يغسل ولا يكفن ولا يحنط ، بل يدفن بثيابه ، ولا تنزع عنه إلا سراويله وخفه وقلنسوته ، ما لم يصب شيئاً منها دمٌ ، فإن أصابها دمه دفنت معه ولا تنزع ويصلى عليه . فأما من نقل عن المعركة وبه رمق فمات فإنه يغسل ويكفن ويحنط ويصلَّى عليه)[4] (إنتهى) ، ويقصد أنه إن قتل في المعركة فإنه لا يغسّل مطلقاً ، أي حتى ولو أدركوه حيّاً .

2 ـ وقال مثلَه تماماً الشيخُ الطوسي في المبسوط : (الشهيد هو الذي يقتل بين يدي إمام عدل في نصرته أو بين يدي من نصبه الإمام ، وينبغي أن يدفن بثيابه ولا يغسل ، ويدفن معه جميع ما عليه ، ويصلى عليه إذا أصابه الدم إلا الخفين ، وقد روي أنهما إذا أصابهما دم دفنا معه . ومن حمل من المعركة وبه رمق ثم مات نُزِعَ عنه ثيابُه وغسل وكفن وحنط وصلي عليه . وكل مقتول سوى من ذكرناه فلا بد من غسله وتحنيطه وتكفينه ظالماً كان أو مظلوماً ، وحكم الصغير والكبير والذكر والأنثى سواء إذا قتل في المعركة غير أنه يصلى عليه ، ولا فرق بين أن يقتل بحديد أو بخشب أو بحجارة أو برفس ، والحكم فيه سواء لعموم الأخبار)(إنتهى) [5] ، ومثل ذلك قال في النهاية .

3 ـ ومثلَهما قال محمدُ بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة (من أعلام القرن السادس) في كتابه (الوسيلة إلى نيل الفضيلة) ص 63 : (المقتول لم يخل : إما قتل بين يدي إمام عدل في نصرته أو من أقامه للجهاد ، أو قتل بغير ذلك ، فالأول لم يغسل إن حمل من المعركة قتيلاً ، وصلي عليه ودفن بثيابه وخِفِّهِ إن أصابه الدم ، وقيل ينزع خِفُّه . وإنْ حُمِلَ مِنَ المعركةِ وبه رمقٌ غُسِّلَ)(إنتهى) .

ويستنتج الإنسان من قراءة هذه النصوص القليلة أنّهم اختلفوا ، ولا أدري لِمَ هذا الإختلاف مع وجود روايات في ذلك ، صحيحة سنداً وواضحة دلالةً ، هل لعدم إيجادهم لها جميعاً بحيث اضطرّت الطائفة الثانية للرجوع إلى واقعة كربلاء فأفتوا على ضوئها بتوهّم أنهم أدرك بعضهم بعضاً ؟! مع أنّ شهداء كربلاء لم يدركهم ـ كمجموعةٍ واحدة ـ أحدٌ من المسلمين وفيهم رمق ، لذلك لم يغسّلوا .

على كلّ ، لا يضرّنا مخالفتهم مع وجود خلاف واضح بينهم ، ووظيفتنا أن نتّبع رواياتنا الصحيحة الصريحة ، وهي تورث الإطمئنان بصدورها أو على الأقلّ بصدور بعضها ، فلن نخالفها .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo