< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إستصحاب بقاء الشرائع السابقة

8 ـ إستصحاب بقاء الشرائع السابقة وعدمُ نسْخِها

موضوع البحث هنا هو فيما إذا شُكّ في نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة فهل يصحّ استصحاب بقائها ، للعَمَلِ بها أم لا ؟

ذكرنا في الدروس السابقة الجواب مفصّلاً ، ونذكّر ببعض ما قلناه ونتابع الحديث فنقول :

قلنا أمس إنّ هناك بعض الظروف اقتضت تشريع بعض الأحكام كما في قوله تعالى ـ في مقام مدح يحيى× ـ ﴿ فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ[1] قيل أي لا يأتي النساء !!

فأقول : الظاهرُ جدّاً أنّ السبب في تشريع عدم الزواج ـ على فرْض صحّة ذلك ـ هو أنّ اليهود قد نَسبوا إلى أنبياء الله أنّ كلّ همّهم هو النساء والدنيا وشهواتُها .. فأراد اللهُ تعالى أن يُزيل هذه التهمةَ عن الأنبياء فشرّع هذا الحكمَ مؤقّتاً ولأشخاص معيّنين ، لثلاثة نفر مثلاً أو أكثر بقليل ولأسباب اضطراريّة ، ولم يَثبت ذلك حكماً عامّاً لكلّ الناس ، فهو بمثابة الحكم الجزئي لبعض الناس لأسباب خاصّة في عصر نبيّ الله عيسى× فقط ... فاهتمّ في زمانه بالجنبة الروحانيّة للإنسان أكثر ممّا اهتمّ بجنبته الماديّة مضادّةً باليهود الذين كانوا قد أعطوا الدنيا كلّ اهتمامهم وتركوا الإهتمامَ بالآخرة ، فأحبّ الله تعالى أن يوازن بين هذا وذاك ، ولعلّك تعلم أنّ معنى حصور هو الذي لا يأتي النساء ويمتنعُ من الجماع باختياره ، وليس عنّيناً ، لأنّ العَنَنَ عَيب لا يجوز على الأنبياء ، وخاصّةً أنّ قوله تعالى ﴿ حصوراً ﴾ خرج مخرج المدح ، والعَنَنُ عيبٌ ، لكنه كان× يميت شهوتَه بكثرة الصوم . المهم هو أنه كان حَصُوراً ، وهذه من صيغ المبالغة في حبس النفس عن مقاربة النساء وسائر الشهوات والملاهي ، وروي "أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للَّعبِ خُلِقْتُ" . المهم هو أنه لأجل ما ذكرنا من اتّهامات اليهود لأنبيائهم كانت شرعيّة عدمِ النكاح وكان رجحانُه ومدْحُه مختصّاً بزمان نبيّ الله يحيى× فقط وأشخاص قليلين جداً ، إذ لم يُعْهَدْ رجحانُه بنحو نوعي في شريعة إلهية ، فلا يكون هذا الحكم منافياً لما في شرائع الله فضلاً عن شريعة الإسلام والتي صرّح بها رسول الله| ( النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، ويُحتمَلُ أن يكون الله تعالى قد مدح يحيى بكونه حصوراً لكونه سيكون نبيّاً سائحاً في البلاد ، وهذا يمنعه من أن يعطي الزوجةَ والعيالَ حقوقهم ، فدفع المانعَ ، ليتفرّغ لتبليغ رسالة نبيّ الله عيسى ×. وبهذا الصدد قال صاحب الجواهر : (ولعل الأولى في الجواب أن يقال : المراد بالحصور ما عن كثير من المفسرين من أنه المبالِـغ في حبس النفس عن الشهوات والملاهي ، من الحصر بمعنى الحبس ، وحينئذ فمدْحُه× هو لتنكبه عن الشهوات وإعراضه عن الملاهي واللذات كما هو المعهود من حاله على ما حكاه عنه العسكري× قال : ( ما مِن عبدٍ لله إلا وقد أخطأ أو هَمَّ بخطيئة ما خلا يحيى بنَ زكريا× ، فلم يذنب ولم يَهِمَّ بذنب ) عكس المعهود من حال غيره الذي زُيِّنَ له حبُّ الشهواتِ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة وغيرها من الملاذ والشهوات ، فلا دلالة في الآية على رجحان ترك التزوّج عندهم ، ضرورة أن حَصوريته بالمعنى المزبور لا تنافي تزوُّجَه للنسل وغيره ، لا للشهوة واللذة ونحوهما . ولعله إلى هذا وما يقرب منه يرجع ما أجيب عنه أيضاً بأنّ مدْحه× ليس على ترك التزوّج حتى يدل على مرجوحيته ، بل على انكسار الشهوة الطبيعية له بغلبة الخوف واستيلاء الخشية وقهرها بالعبادات والرياضات ، ولا ريب في حسن ذلك ومدحه وإن أدى إلى ترك التزوّج المطلوب ، فإنّ تأدية شيء إلى ترك أمر مطلوب لا ينافي حسنه ، لتمانع أكثر الطاعات مع اتصاف جميعها بالحسن ، وإنما أطلق عليه الحصور لأن وجود الشهوة فيه بمنزلة العدم ، فكأنه حصور لا شهوة له أصلاً ، وليس إطلاقه عليه لترك النساء الملزوم لترك التزوّج حتى يكون مدحاً له على ذلك فيستلزم مرجوحية التزوّج ، ولا لسلب الشهوة ونزعها عنه بالكلية حتى ينافي وروده مورد المدح والثناء ، ووقوعه نعتاً لمن لا يليق به النقص . وعلى كل حال فلا دلالة في الآية على رجحان ترك التزوُّج لمن تَتُوقُ نفسُه إليه)(إنتهى) [2] . أقول : الظاهر قويّاً أنّ مدْحه بكونه حصوراً كان خاصّاً به لا تشريعاً عامّا ً .

ولـِما ذكرنا شرّع اللهُ تعالى بعضَ الأحكام الخاصّة ببني إسرائيل فقال [ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا ، وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ ، وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ ، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)] [3] إذن شرَّعَ اللهُ لهم هذه الرهبانيّةَ ابتغاءَ رضوانِه جلّ وعلا ولتلك الظروف المعروفة ، لكنها لا شكّ أنها كانت رهبانيّة عقلائيّة لكونها كانت ذات أسباب وجيهة جدّاً ، وإلاّ لما كتبها الله عليهم ابتغاء نيل رضوانه . والظاهرُ أنّ رهبانيّتهم كانت (صلاةَ الليل) ونحوها ، وذلك لما رواه في يب بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن علي بن أسباط(بن سالم ثقة وكان أصدق الناس لهجةً وأوثقهم ، كان فطحيّاً ثم رجع إلى المذهب الحقّ) عن محمد بن علي بن أبي عبد الله (يروي عنه البزنطي بسند صحيح وهذا أمارة الوثاقة) عن أبي الحسن× في قوله تعالى[ ورهبانية ابتدعوها ، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ] قال : ( صلاة الليل ) ، ورواها الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين ، ورواها الصدوق في (العلل وفي عيون الأخبار) عن أبيه عن محمد بن يحيى مثله [4] مصحّحة السند ، إذن المراد من (الرهبانيّة) هي صلاة الليل لا الرهبانيّة السلبيّة التي قد تـتبادر إليها الأذهان . إذن معنى الآية ـ واللهُ العالم ـ هو أنّ الله تعالى جعل فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ـ أي المؤمنين ـ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً جيّدة كصلاة الليل والإستغفار في الليل والتفرّغ لعبادة الله ، لكنْ هم ابتدعوا هذه العبادات الحميدة ، لا نحن ، ولم تكن مِن قَبْلِهم في أزمان السابقين ، لكننا قَبِلْنا بِدْعَتَهُم هذه ، لأنها كانت جيّدة في ذاتها ولتُوْصِلَهم إلى [رِضْوانِ اللهِ] وهذا صريح في أنه جلّ وعلا شرّعها لهم إستثناءً ، أي من باب الحكم الثانوي ، لغرضهم الجيّد ، لكنِ الفاسقون منهم ما رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، فلعلّهم شابوا ذلك ببعض البدع المبغوضة كترك الزواج ولبس المسوح وترك اللحوم ونحو ذلك وبالرياء أو بالإعتماد في معاشهم على غيرهم ، أو صار همّهم الدنيا وجمعَ المال من الناس على أساس أنهم رهبان متفرّغون لعبادة الله .

وبما أننا لا نعرف حقيقةَ ما تركوه فلا يَدخل هذا الموردُ في بحث (استصحاب الشرائع السابقة) لأننا لا نعرف رهبانيّتَهم بالتفصيل ، أي لا نعرف ماذا كان يفعل المؤمنون منهم وماذا كانوا يتركون لنستصحب مشروعيّةَ ذلك ، فلا يقين بالحدوث ولا شكّ في البقاء .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo