< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/03/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الأصل المـُثْبِت

الأصل المـُثْبِت

عرفتَ الأصلَ المـُثْبِتَ من الأبحاث الماضية أكثر من مرّة ، وكلامُنا هنا هو تفصيل لما سبق فنقول :

أنت تعلم لزومَ وجودِ أثر شرعي للإستصحاب ، كما في استصحاب طهارة الثوب وطهارة الماء الذي في الإناء ، فإنّ للإستصحاب هنا أثراً شرعيّاً ، وهو إثبات طهارتهما ظاهراً ، والطهارة حكم شرعيّ وضعي يترتّب عليها حكم تكليفي وهو جواز الصلاة في الثوب ، وجوازُ شرب الماء الذي استصحبنا طهارته .. وقد يعبَّرُ بتعبير أنّ من اللازم وجودَ أثرٍ للمستصحَب ، ولا ضَيرَ في استعمال أيّ الإسلوبين لوضوح المقصود منهما ، وقد شرحنا هذا المطلب في الركن الثالث من أركان الإستصحاب ص 467 بتفصيل فلا نعيد .

وقد يترتّب الأثرُ الشرعي بواسطة أثر تكويني أو عقلي أو عادي ، فهنا لا يجري الإستصحاب ، وذلك لأنه سيكون ح أصلاً مثبتاً ، أي يُثْبِتُ الأثرَ الشرعي بواسطة أثر تكويني أو عقلي أو عادي ، ويعبّرون عنه باختصار بالأثر العقلي أو اللازم العقلي .

بيانُ المطلب : قد يفهم الفقيهُ من بعض الشروط الموجودة في موضوعات الأحكام أنها مطلوبة بنحو القطع ، وقد يفهم منها أنها مطلوبة بنحو التعبّد الصرف ، ومحلّ الأصل المثبت هو النحو الأوّل فقط .

بـيان النحو الأوّل في أمثلة :

قد يكون زيدٌ نائماً تحت حائط ، وتركناه نائماً تحت الحائط وذهبنا ، ثم عَلِمْنا بأنّ الحائط قد وقع لجهته ، فلو استصحبنا بقاءَه تحت الحائط لَحَكَمْنا بموته قطعاً ، فهل نستصحب بقاءه تحت الحائط لنحكم بوجوب اعتداد زوجته وبتقسيم ماله ؟ الجواب : كلا ، لأننا لو أردنا استصحاب بقائه في مكانه لنُثْبِتَ (موتَه) فهذا الإستصحابُ يكون أصلاً مثبتاً ، وهو مرفوض عقلائيّاً وشرعاً ، وذلك لأنّ الفقيه يفهم من (الموت) الذي يترتّب عليه الإعتداد وتقسيمُ التركة هو الموت بنحو القطع ، ولذلك ترى فقهاءَنا يستصحبون حياتَه ولا يستصحبون بقاءه تحت الحائط ليحكموا عليه بالموت تعبّداً ، ذلك لأنهم يفهمون من الأدلّة الشرعيّة لزوم أن يكون موته ـ في هكذا مثال ـ ثابتاً بنحو القطع .

مثال آخر : لو أطلق زيدٌ النارَ على عمرو وهرب ، بحيث لو بقي عمرو في مكانه لوصلت إليه الرصاصةُ ولقتلته حتماً ، فهل يصحّ استصحاب بقائه في مكانه لإثبات أنه قد قتلته الرصاصةُ ، وبالتالي لنُثْبِتَ وجوبَ القَوَدِ على زيد أو الدية والكفّارة ؟ قطعاً لا ، وذلك لنفس السبب السابق ، وهو أنّ الفقيه يَفهم من (القتل) الذي يترتّب عليه القود أو الدية والكفّارة هو (القتل) بنحو القطع ، أي يجب أن يَثْبُتَ ذلك بالقطع ، لا بأصل عملي ، ولذلك لا يثبت في حقّ مُطْلِقِ الرصاصةِ القِوَدُ ولا الكفّارة وذلك لأصالة البراءة العقليّة والشرعية ، نعم يجب عليه التوبة والإستغفار لأنه تجرّأ على الله تعالى .

مثال ثالث : لو نذر شخصٌ أنْ لو نبتت لحيةُ ولدِه أن يذبح شاةً ، ثم ضاع ولده ، ولم يَدْرِ هل أنه مات أو لا يزال حيّاً ، فإنه لو أراد أن يستصحب حياته ليُثْبِتَ (بقاءَه حيّاً) ، وبالتالي ليُرَتّب على ذلك (نبات لحيته) ، وبالتالي ليرتّب على ذلك وجوبَ ذبح شاةٍ عن ولده ، فهذا سيكون أصلاً مثبتاً ، وهذا أيضاً يرفضه كلّ العقلاء ، لأنّ المنذور عقلاً وعقلائيّاً هو بقاء ولده حيّاً بنحو القطع ، لا بنحو التعبّد الصرف ـ أي لا عن طريق الأصل العملي ـ ، ولذلك ترى علماءنا يقولون بعدم وجوب أن يذبح شاةً .

مثال رابع ـ في الواسطة الخفيّة ـ : إذا لامَسَ ثوبٌ رطِبٌ متنجّسٌ ثوباً آخرَ طاهراً ، والثوبُ المتنجّس كان رطباً سابقاً رطوبةً مسرية ، لكن عند الملامسة كانت رطوبته قد قلّتْ بحيث شككنا في انتقال النجاسة إلى الثوب الطاهر ، فهنا لا يستصحب علماؤنا بقاءَ الرطوبة المسرية في الثوب المتنجّس لإثبات نجاسة الثوب الطاهر ، قائلين بأنّ الحكم بنجاسة الثوب الطاهر متوقّف على حصول (السريان) من طرف إلى طرف آخر بنحو القطع ، فـ (السريانُ) ـ أي انتقال النجاسة من طرف إلى آخر ـ مطلوبٌ بنحو القطع ، ونحن لو استصحبنا بقاء الرطوبة المسرية ـ طبعاً بعد المماسّة الوجدانيّة بين الثوبين ـ فسوف نُـثْبِتُ (وجود رطوبة مسرية) ، وهذا أثر عقلي لا شرعي ، ولا يلاحظ الإنسانُ عادةً أنّ (إثباتَ وجودِ رطوبة مسْرِيَة) هي واسطة في إثبات سريان النجاسة إلى الطرف الآخر ، ويظنّون أنّ وجود رطوبة مسرية هي عين سريان النجاسة ، فلذلك قالوا هي ـ أي وجود رطوبة مسرية ـ واسطة خفيّة ، وقد عرفت أنّ الإستصحاب لا يُثْبِتُ (وجودَ رطوبة مسرية) ، لأنّ (وجود رطوبة مسرية) هو أثر تكويني لا شرعي ، وبتعبير آخر : أنت بالإستصحاب لم تُثْبِتِ النجاسةَ في الطرف الآخر ، وإنما أثبتَّ شيئاً تكوينيّاً غيرَ النجاسة ، ولذلك نقول بعدم جريان هذا الإستصحاب لأنه أصل مُثْبِتٌ ، ولذلك نقول بلزوم أن نستصحب بقاء طهارة الثوب الطاهر .

مثال خامس ـ في الواسطة الخفيّة أيضاً ـ : لو لم يكن على أعضاء الوضوء حاجب سابقاً ، لكننا شككنا في طروء حاجب عليها ، ورغم ذلك لم ننظر وتوضّأنا مستصحِبين عدمَ طروء الحاجب !! هذا الإستصحابُ خطأ ، لأنّ الإستصحاب هنا إنما يراد منه إثباتُ غسل البشرة أي وصولِ الماء إلى البشرة ـ طبعاً مع الغَسل بالماء ـ ، (إثباتُ عدم الحاجبِ) هو أثر عقلي وجودي ، لا شرعي ـ أي لا وضعي ولا تكليفي ـ فهو لا يَثْبُتُ بالإستصحاب ، والأثرُ الشرعي هنا هو وجوب غسل البشرة ، ولذلك كان الجاري هنا هو استصحاب عدم وصول الماء إلى البشرة .

والسرّ في عدم جريان الإستصحاب في هكذا حالات هو أنّ المستصحَب فيها شيءٌ ، وموضوعُ الأثرِ الشرعي شيءٌ آخر ، فالمستصحَب ـ في المثال الثالث مثلاً ـ هو بقاء حياة زيد تعبّداً صرفاً ، مع أنّ المطلوب شرعاً وفي النذر هو إثبات وجوده بنحو القطع الوجداني . ومن الطبيعي مع عدم حصول موضوع الحكم أن لا يترتّب الحكمُ الشرعي ، حتى ولو كانت الواسطة العقليّة خفيّةً ، لأنّ المشكلة هي في عدم تحقّق موضوع الحكم الشرعي ، فلو تخيّل العرفُ أنّ موضوع الحكم الشرعي قد تحقّق ، فهذا ليس مبرّراً لنا ـ نحن الذين نعلم بعدم تحقّق موضوع الحكم حقيقةً ـ أن نجري الإستصحاب .

إذن فالأصلُ المثبت هو الذي يراد منه إثباتُ الآثار الشرعيّة بواسطة الآثار التكوينيّة أو العقليّة أو العاديّة .

نعم ثَبَتَ في الشرع قيامُ الأمارات مقام القطع الوجداني كما مرّ معنا ذلك في أبحاث سابقة ، فلو جاءت بيّنةٌ عادلة وادّعت أنهم رأوا الولدَ حيّاً لوجب على أبـيه أن يذبح شاةً .

بيان النحو الثاني في أمثلة : في نفس مثال انهدام الحائط إلى جهة زيد الذي كان نائماً تحته ، وكذلك في مثال مَن أطلق رَصاصةً على زيد وهرب ولم يدرِ هل أصابت الرصاصةُ زيداً أم لا ... يستصحب الفقيهُ بقاءَ حياة زيد لأنه استصحاب موضوعي يترتّب عليه وجوب الحكم ببقاء الزوجيّة وحرمة تقسيم ماله . ولا يوجد مانع يمنع من هذا الإستصحاب ، فإنه يترتّب عليه أثر شرعي مباشرةً ومن دون توسّط آثار تكوينيّة .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo