< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/02/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : استصحاب الحكم المعلّق
ـ استصحاب الحكم المعلّق
ذهب بعض العلماء إلى القول بجريان الإستصحاب في الأحكام المعلّقة كالشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية والمحقّق العراقي وغيرهم، وأنكر صحّتَه البعضُ الآخر من المحقّقين كالمحقّق النائيني والسيد الخوئي وغيرهما . قال سيّدنا الشهيد في التقريرات ج 6 ص 281 : (وقد كان المشهور قبل المحقّق النائيني جريان هذا الإستصحاب، إلاّ أنّ هذا المحقّق الكبير برهن على عدم جريانه، فأصبح المشهور بعده عدم الجريان)(إنتهى) .
وقبل البَدء بالتفصيل ينبغي الجواب أوّلاً باختصار فنقول :
أوّلاً : عرفتَ من الأبحاث السابقة أنّ الإستصحاب لا يَجري في الشبهات الحكميّة، إذن لا يجري استصحاب الحكم المعلّق .
ثانياً : إنه لا شكّ في بقاء الجعل، لأنّ المفروض أننا لا نحتمل النسخَ، بل ليس كلامنا في النسخ، فالركن الثاني مخدوش، فلا يصحّ استصحاب السببـيّة كما يدّعي الشيخ الأنصاري .
ثالثاً : إنّ استصحاب بقاء شرط الموضوع ـ كالعِنَبيّة ـ لا يَجري لأنّك إنما تريد أن تُثْبِتَ مِن خلال استصحاب بقاء العنبيّة عنوانَ (عصير العنب) ثم إثباتَ عنوانِ (العصير العنبي المغلي)، هذه العناوين الوجوديّة لا يُثْبِتُها الإستصحابُ، فقد قلنا سابقاً إنّ أدلّة الإستصحاب إنما تفيدنا نَفْيَ عروضِ العوارض فقط، ولا تُفيدنا إثباتَ عناوينَ وجوديّة، وإلاّ لكان أصلاً مثبتاً .
ورابعاً : ليس عندنا حالةٌ موضوعيّة سابقة لنستصحبها لنستفيد منها ما يريدون من إثبات الحرمة للعصير الزبيبي المغلي، فماذا نستصحب ؟!! فقد كان العصير الزبيبي قبل الغليان حلالاً، فإذا أردت الإستصحابَ فإنما يَثبتُ بالإستصحابِ الحِلّيّةُ .
والنتيجة هي أننا يجب أن نرجع في عصير الزبيب المغلي إلى أصالة الحليّة . طبعاً كلامُنا على صعيد علم الاُصول فقط .
شرح المطلب بالترتيب المذكور في المختصر :
أوّلاً : قلنا في الأبحاث السابقة بأنه إذا تغيّر شيءٌ أساسي في الموضوع ـ كما في موت المرجع أو في نقاء الحائض من الحيض ـ لقلنا بأنّ هذه الشبهة حكميّة، فلا يجري الإستصحاب حتماً، لأنّ الأصل ح لزومُ الرجوع إلى العمومات الفوقانية كالبراءة والحليّة، لا بل إن احتملت في مثال العنب تغيّر شيء أساسي فإنه لا يمكن لك استصحاب بقاء نفس الموضوع، وإنما عليك أن ترجع إلى عمومات الحلّيّة، لأننا نشكّ في تحقّق موضوع الحرمة . من هنا تعرف أنّ نظرنا كان ـ دائماً ـ إلى إمكان إثبات وجود الشرط في القضيّة الشرطيّة، وليس إلى استصحاب القضيّة السببيّة، التي هي جعْلٌ، وأنت تعلم أنّ الإستصحاب لا يجري في الجعولات ـ أي في الأحكام ـ لأكثر من سبب، فإنّ الأصل عدم الجعل، وح يكون المرجع هي العمومات الفوقانيّة، كما في موت المرجع، فإننا لا نستصحب بقاء جواز تقليده، وإنما نرجع إلى عموم عدم جواز التقليد، وكما في نقاء الحائض، فإننا لا نستصحب حرمة مقاربتها، وإنما نرجع إلى عموم عدم الحرمة، أو قُلْ لأنّ الأصل جواز مقاربة الزوجة ... وإنما يجري الإستصحابُ في الموضوعات فقط .
وبتوضيح أكثر، يقول الشيخ الأنصاري : نستصحب سببيّةَ غليانِ العصير !! فهي حكم وضعيّ فعليّ، معلوم حدوثاً، ومشكوك بقاءً[1] .
فأقول : أمّا كبرى (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) فلا شكّ في بقائها، وأمّا إجراء استصحاب بقاء كبرى حرمة عصير الزبيب المغلي فليس لها حالة سابقة متيقّنة كي تستصحب، بمعنى أننا لا نعلم بأصل جعْلِ حرمة العصير الزبيبي المغلي . إذن لا موضوع للإستصحاب التعليقي أصلاً، فلا نقع في تعارض بين استصحاب الحكم المعلّق واستصحاب حلّيّة الزبيب قبل الغليان، وإنما علينا أن نستصحب حلّيّةَ العصيرِ الزبيبي قبل الغليان بلا معارض .
ثانياً : إستدلّ بعضهم بأنّ القضيّة الشرطية الشرعية كانت ثابتة في العنب، فبعدما جفّ العنب وصار زبيباً نشكّ في بقاء القضيّة الشرطية الشرعيّة بلحاظ عصير الزبيب المغلي، فنستصحب بقاءها !!
وهذا الدليل أوهَى من بيت العنكبوت، فأيّ ربط بين استصحاب قيد في شرط القضيّة الشرطية، وبين استصحاب بقاء نفس القضية الشرطية (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) ؟! فإنّ الكبرى التي هي عبارة عن سببيّة غليان العصير العنبي لتحريمه لا شكّ في بقائها، إذ نحن لا نحتمل النسخ هنا، بل ليس كلامنا في احتمال النسخ، وإنما الشكّ في بقاء شرط موضوع الصغرى ـ الذي هو العنب ـ لا غير .
ثالثاً : قال المحقّق الأشتياني[2] بلزوم البناء على بقاء موضوع الحكم وهو بقاء العِنَبِيّة ـ في المثال الأوّل ـ وذلك لاحتمال عدم دخالة اليبوسة في موضوع الحكم، أي يجب أن نجري الإستصحاب في الموضوع، ما أمكننا ذلك، طبعاً بعد فرض عدم العلم بتغيّر الماهيّة والحقيقة، وإلاّ فلا شكّ في عدم جريان الإستصحاب حينئذ . والأثرُ الشرعي لهذا الإستصحاب الموضوعي هو أننا نطبّق صغرى غليان الزبيب على كبرى (حرمة العصير العنبي إذا غلى) فنخرج بنتيجة واضحة وهي حرمة هذا الزبيب المغلي .
أقول : نعم، لا مانع من استصحاب بقاء العنبية، لكن هذا فيما لو كان الأثر الشرعيّ مترتّباً مباشرةً ومن دون توسّطِ آثارٍ تكوينيّة أو عقليّة، لكن السؤال هو : هل يُثبتُ الإستصحابُ عنوانَ (العنب) فح نقول إذن صار المغلي هو (عصير العنب المغلي) !! إذن صار هذا المغلي حراماً ؟! فإن قلتَ نعم فاستصحاب العنبيّة ح سوف يكون أصلاً مثْبِتاً !! لأنه سوف يُثبِت شرط القضيّة الشرطيّة !!
ورابعاً : ليس عندنا حالةٌ موضوعيّة سابقة لنستصحبها لنستفيد منها ما يريدون من إثبات الحرمة للعصير الزبيبي المغلي، فماذا نستصحب ؟!! وإذا أردت استصحاب بقاء الجعل فلا شكّ في بقائه، على أنك إن أردت إثبات حكمٍ في مرحلة الجعل فهذا تدخّل في عالم الجاعل جلّ وعلا، أي أنّ هذا ابتداع التشريع، وهو حرام عقلاً، وليس فقط شرعاً، وإذا أردت استصحاب الحكمِ المجعول الفعلي ـ أي الحرمة الفعليّة لهذا الزبيب المغلي ـ فالجواب هو أننا لا نعلم بأصل وجود تحريم فعلي لهذا الزبيب المغلي، فكيف نستصحب حرمته الفعليّة التي هي في مرحلة متأخّرة عن مرحلة الجعل، بل الحرمةُ الفعليّة معلولةٌ للجعل ؟! وأنت تعلم أنه لا يوجد حكم فعلي إلاّ مع وجود تمام موضوع الحكم في الخارج، أي مع كافّة شرائطه، كما في استصحاب الطهارة الفعليّة للثوب الفلاني، أمّا في استصحاب الحكم المعلّق فالأمر مختلف تماماً، لأنك إن أردت استصحاب العنبيّة ثم نغليه لتـُثْبِتَ وجود تمام موضوع الحكم في الخارج الذي هو (العصير العنبي المغلي)، فهذا أصل مُثْبِتٌ بوضوح، وإن أردت فقط أن تتصوّر غليانه لتُثْبِتَ عنوان (العصير العنبي إذا غلى) فهذا أيضاً أصل مثبت . والنـتيجة هي أنه لا يصحّ استصحاب الجعل ولا المجعول ـ أي الحكم الفعلي ـ .

وهنا نرجع إلى الأسئلة المطروحة عندهم فنقول :
1 ـ هل يجري استصحاب حياة العبد الغائب في ليلة عيد الفطر لإثبات وجوب فطرته ؟
الجواب : لا، لا يجري الإستصحاب في هكذا حالة، وذلك لأنّ المطلوب شرعاً أن يكون العيال معلومي الحياة بنحو الصفتيّة بالوجدان، لا بالتعبّد، والإستصحاب لا يثبت الحياةَ، وإلاّ لكان أصلاً مثبتاً .
2 ـ وهل يجري استصحاب حياة الوارث عند موت مورِّثِه ؟ فأنت تعلم أنه إن كان ميّتاً فلا يرث لا هو ولا أولاده من أبويه مع وجود أبناء للميّت . وبتعبير آخر : إن كان حيّاً فإنه يرث، أو قُلْ : على تقدير أنه حيّ فإنه يرث، فهل تستصحب حياته ؟
الجواب : مثل الجواب السابق تماماً، فإنّ موضوع الحكم هو الحياة بنحو الصفتيّة أي المعلومة بالوجدان، لا بالتعبّد . ففي كلتا الحالتين لم نجرِ الإستصحاب .
3 ـ أنت تعلم أنه يشترط في الواهب أن يكون عاقلاً راشداً سالماً، أمّا إن كان مريضاً يحتمل فيه الموت ففيه كلام وتفصيل، فلو باع هذا المريضُ أو وهب أو وقف ثم مات في مرضه هذا، وشككنا في صحّة بيعه وهبته، فهل لنا ـ بعد موته في مرضه المذكور ـ أن نستصحب القضية الشرعية الشرطية السالفة الذكر بلحاظ تصرّفاته المحاباتية فنصحّحها أم لا ؟
الجواب : نحن لا ندري ـ أصولياً ـ هل أنه إذا كان في حال المرض وباع بضاعتَه بسعر قليل جداً أي دون القيمة المتعارفة بشكل كبير، أو وهب أو وقف ونحو ذلك، وخاصّةً إذا كان عليه دَين بحيث يضرّ الديّانَ تصرّفُه المحاباتي، هل يصحّ تصرّفه كلّه أو أنه يُتعامل معه كما يُتعامل مع الوصيّة ـ أي يصحّ بمقدار ثلث التركة فقط ـ ؟ ففي هكذا حالة لا يمكن لنا استصحاب الجعل كما كان الجعل في الحيّ، فلعلّ المريض الذي مات في مرضه له حكمٌ آخر في عالم الجعل، فكيف نستصحب الحكم السابقَ ؟! وهل هذا إلاّ قياس واضح ؟!

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo