< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/02/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إستصحاب الحركات

أمّا إن كان المستصحَبُ غيرَ متّصلٍ عرفاً ، كما في الحركات المتعدّدة ، كما في مشي زيدٍ في البستان بهدوءٍ مُبْتَغِياً مكاناً قريباً مناسباً لقعوده وقعود عياله ، فإننا نعلم أنه سوف يتوقّف بعد قليل ، فهو لا يريد أن يتكلّف بزيادة المشي ، لذلك يرى العرفُ أنّ مشيه الزائد هو قطعات حادثة زائدة على ما مشى سابقاً وفيها تكلّف ، خاصّةً إذا كان يسير بهدوء ـ كما قلنا ـ أي تخلُّلُ العدمِ واضحٌ في مشيه ـ بخلاف الطهارة التي توجد بكلّها في الزمان الأوّل ـ ، فاليقينُ متعلق بموجود زائل ، والشك متعلّقٌ بحدوثِ موجودٍ آخر . ففي هكذا حالة يصعب عند العرف والمتشرّعة أن يستصحبوا مشيه ، لأنهم يَرَون مشيَه منقوضاً بذاته ، فنحن ـ في الحقيقة ـ لا نستصحبُ مشيَه للشكّ في حدوث مشيٍ جديد ، لا لوجود شكّ في بقاء المشي ، فالخدشةُ إذن هي في الركن الأوّل من أركان الإستصحاب ، لا في الركن الثاني ، أي أنّ عدم صحّة الإستصحاب منشؤه عدمُ العلّة ، لا وجود الرافع ، على أنّ لك أن تقول أيضاً إنّ الوجود الأوّل هو غير الوجود الثاني ، فالركن الثالث للإستصحاب ـ الذي هو عبارةٌ عن وحدة المتيقّن والمشكوك ـ غير موجود . ولذلك لو نَذَرَ شخصٌ وقال "للهِ علَيّ أنْ اُسَبّحَ اللهَ تعالى طالما كان زيدٌ يمشي" فمن الصعب عرفاً ومتشرّعيّاً أن يُجري استصحابَ مشيِه الآتي الزائد الذي لم يَحْدُثْ بَعْدُ بذريعة شمول قولِهمi (لا تنقضِ اليقينَ بالشكّ) لما نحن فيه ، فإنّ المستصحِبَ يَرَى أنّ مشي زيدٍ السابقَ قد فَنَى ، والآتي لم يأتِ بعد ، واستصحابُ مفهومِ المشي مرفوض عقلائيّاً ، لأنّ المستصحَب المرادَ استصحابُه هو بقاء الحالة السابقة ، أي أنّ المنظور عند المستصحِب هو استصحاب المستصحَب الشخصي الجزئي الخارجي ، لا استصحاب بقاء المفهوم الكلّي الذهني للمشي ـ أي عنوان المشي ـ ، لا بل حتى المفهوم الكلّي غير واضح في الذهن لعدم معرفة مقدار المشي ، وكذا إذا أردنا أن نستصحب أكْله ، وكذا أيضاً فيما إذا نَذَرَ شخصٌ فقال "للهِ عليّ أن اُسبّح اللهَ طالما كان زيدٌ يتكلّم" فالتكلّمُ ـ عادةً ـ يتخلّلُه السكوتُ ، ولا يوجد كلّه في الزمان السابق ، وإنما يوجد بعضه الذي تصرّم ، وأمّا الذي لم يأتِ فلم يأتِ بعد ، ففي هكذا حالة يجوز للناذرِ أن يَتْرُكَ التسبيحَ ، وذلك لعدم علمه بأنّ زيداً لا يزال يتكلّم ، فيكون من باب الشكّ في التكليف الزائد .

على أنّ لك أن تشكّك وتقول : هل يجري في هكذا حالةٍ استصحابُ عدم توقّفه عن الكلام أم يجري استصحابُ عدم التكلّم الجديد ؟ إذن فهُما متعارضان ، ولا وجه لتقديم استصحاب عدم توقّفه عن الكلام ، لا بل التقدّمُ هنا ـ بوضوح ـ لاستصحاب عدم التكلّم الجديد .

إضافةً إلى أنّ الأصلَ أيضاً هو عدمُ تشريع هكذا استصحاب لمستصحَبٍ ذهني .

بل كذا الأمرُ أيضاً إن شككنا في الوحدة العرفيّة ، كما في مشي الشخص الذي يتنزّه وبانياً على المشي الكثير ، والمشي في الدقيقة الثانية غير المشي في الدقيقة السابقة ، لذلك فإنه يصعب عليهم الإستصحاب في هكذا حالات([1] ) .

وبتعبير آخر : إن لم يكن المستصحَبُ متّصلاً عرفاً فلا دليل على حجيّة استصحاب ما شكّ في صحّة استصحابه ، وذلك لِعِلْمِنا بعدم حدوثه أوّلاً ـ أي ليس له حالة سابقة ـ وإذا عَلِمْنا بحدوثه فقد عَلِمْنا بتصرّمه في اللحظة الثانية ، فالشكّ في جريان الإستصحاب في هكذا حالات هو شكّ في أصل التعبّد به ، ولك أن تقول : هنا شبهة مصداقيّة في كون هكذا حالات من مصاديق موارد الإستصحاب .

ومن هنا تعرف الفرق بين استصحاب بقاء حياة زيد واستصحاب الزمانيّات ، ففي حياة زيد الإستصحابُ عبارةٌ عن استصحاب بقاء الروحِ فيه ، فوجودُها في زيد في الآن الثاني هو بقاءٌ لوجودها في الآن السابق ، فهي غير متصرّمة ، وإنما هي ـ لولا أخْذُ اللهِ تعالى لها ـ هي باقية ما بقي الدهر . وكذا طهارةُ الثوب ـ مثلاً ـ هي قارّةٌ عرفاً ، وإلاّ فهي ـ بالدقّة الفلسفيّة ـ متصرّمة لأنّ نفسَ موضوعها ومحلّها متصرّمُ الوجود ، خاصةً على مسلك صدر المتألّهين من الحركة الجوهريّة والتصرّم الدائم في الماديّات ، مادّةً وصورة .

فإن قلتَ : لماذا لا نستصحب المشْيَ عرفاً كقطعة واحدة ، مع غضّ النظر عن الحدوث والإنصرام لكلّ حركة حركة ؟! أي صحيحٌ أنها متفرّقة في الخارج ، لكنْ أجزاؤها ـ في الخيال ـ مجتمعة ، فنستصحب هذا الكلَّ الموجودَ في الذهن ، وذلك كما نستصحب القطعة الزمانيّة الفلانيّة ـ كالليل مثلاً ـ مع غضّ النظر عن الدقائق والثواني ؟!

قلتُ : نحن إنما نريد أن نستصحب الواقعَ الخارجي ، وليس المفهومَ الذهني الكلّي . أو قُلْ : ليس مراد أحدٍ أن يستصحب بقاءَ المشي كمفهوم ذهني وكعنوان موجود في الذهن ، إنما مراد الكلّ أن يستصحبوا بقاء المشي الخارجي . والمشْيُ والأكْلُ والتكلّمُ ونحوُها لا يمكن استصحابها لأنها أمورٌ لا وَحدةَ عرفيّةَ لها ـ إلاّ في الذهن ـ لأنها حركات متعدّدة حادثة ومتصرّمة ، ويتخلّل العدمُ بين أجزائها ، أي بين كلّ حركة وحركة ، ولو لحظة واحدة ، وإلاّ لكانت حركة واحدة متّصلة ـ كالزمان ـ ، على أننا لا نعرف حدودَها النهائيّة لأنها حادثة كلّ ثانية ، فكيف نـتخيّل مشيَه السابقَ ونستصحبُه مع أنه تصرّمَ ، أم كيف نستصحب بقاءَ مشْيِه الآتي ـ أي إلى زمان الشكّ ـ مع أننا نشكّ في أصل الحدوث الجديد ؟!

أمّا في مثال القطعة الفلانية من الزمان ـ كالليل ـ فإنها عرفاً قطعةٌ واحدة ، فيمكن بوضوح استصحابُ بقائها عرفاً ، لعدم تخلّل العدم بين أجزائها .

نعم ، قد تستشكل في مثال خروج الدم من الجرح مثلاً ، بأنه خروج واحد متّصل تماماً ، فلما لا نستصحب بقاء خروجِ الدم من الجرح ، كما نستصحب في مورد الزمان ؟!

فأقول : يحتمل صحّة ما في الإشكال ، لكن ـ رغم ذلك ـ يبقى عندنا شكٌّ في أصل جعْلِ الإستصحابِ في هكذا مورد ، حيث التغيّرُ والتصرّمُ ذاتيّ للمستصحَب ، ويَصعب انطباقُ (النقضِ) على نقض الحالة السابقة ، لأنها منقوضة ذاتاً ، على أنّ الشكّ في جعل الإستصحاب في هكذا موارد موجودٌ بالوجدان ، فإنّ الناس يرَون أنّ خروج الدم في الدقيقة الثانية غير خروج الدم في الدقيقة الاُولى ، ولذلك لا يكون الدم الثاني بقاءً لما سبق ، ولذلك لا بدّ من القول بعدم ثبوت وجود استصحاب في هكذا موارد ، والأصلُ عدم الجعل .

وإن قلتَ : في مثال خروج الدم من الجرح لماذا لا نستصحب بقاءَ انفتاح الجرح ، فيترتّب على هذا الإستصحابِ بقاءُ خروجِ الدم .

قلتُ : هذا أصلٌ مُثْبِتٌ بوضوح ، وذلك لأنك تريد إثبات (بقاءِ خروج الدم من الجرح) ـ وهو أثر تكويني ـ من خلال استصحاب بقاء انفتاح الجرح .

وإن سألتَ وقلتَ : ماذا تقول لو قال لنا المولى (إنّ الجرح سوف ينزف ساعةً تماماً) ثم شككنا في انقضاء هذه الساعة ، فهل يجب أن نبني على عدم انقضائها لنثبت بقاء خروج الدم ؟

لأجبناك : هذا الإستصحاب للساعة هو أيضاً أصلٌ مثبت ، لأنك إنما تريد ـ من خلال هذا الإستصحاب ـ أن تُثْبِتَ (بقاءَ خروج الدم) ، وهذا أثر تكويني ، لا شرعي ، ولذلك عليك أن لا تستصحب بقاء خروج الدم ، لأنّ الأصلَ عدمُ التعبّد بالإستصحاب .

 


[1] يقول السيد الحكيم في مستمسكه، ج3، ص227. بصحّة جريان الإستصحاب في الأمور التدريجيّة، قال : (.. وقد حُقِّقَ في محله جريانُ الإستصحاب في الأمور التدريجية، وإنّ الوجود المتصل بلا تخلل العدم وجود واحد حقيقة وعرفاً، والتغاير بين الوجودين في الزمانين من قبيل التغاير بين مراتب الوجود الواحد)(إنتهى) . وكذلك قال بجريان الإستصحاب في الأمور التدريجيّة الآقا ضياءُ الدين العراقي في تقريرات آية الله السيد محمد رضا الطباطبائي التبريزي الذي سمّاه (تنقيح الأصول) ص309

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo