< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/01/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القِسمُ الثالث من استصحاب الكلّي

القِسمُ الثالث من استصحاب الكلّي : أن يكون الشك في حدوث فرد مسبِّبٍ للشك في بقاء الكُلّي شكاً بدْوِيّاً ، ومثالُه اَن يَعلم الشخصُ بوجود الكُلّي ضِمن فرد ، ثم يَعلم بارتفاعه بعد مدّة ، ثم يَحتمِلُ أن يكون قد حدث فرد آخر حينَ زوال الفرد الأوّل أو قبل زوال الفرد الأوّل ، بحيث يبقى الكلّي موجوداً ، لكن ضمن فرد آخر . ويسمَّى هذا في كلماتهم بالقِسم الثالث من استصحاب الكُلّي . فلو علمنا بدخول زيد في المسجد ، ثم عَلِمْنا بخروجه بعد ساعة ، لكننا احتملنا دخول شخص آخر عند خروج زيد أو قبل خروجه بحيث لم يَخْلُ المسجدُ من إنسان ، فهل لنا أن نستصحب بقاء وجود إنسان في المسجد أم لا يمكن ذلك ؟

قد يُتخيَّلُ جريانُ الإستصحاب في هذا القسم الثالث مطلقاً ، على أساس تواجد أركانه في العنوان الكُلّي وإن لم تكن متواجدة في الأفراد .

لكنه اشتباه ، والصحيح هو لزوم التفصيل في هذا القسم الثالث :

فإنْ كان المنظور إليه هو الجامعُ كمرآة وعنوانٍ لمصاديقه ـ كما في مثال الإنسان السالف الذكر ـ فإنّ الجامع الثاني مغاير تماماً للجامع الأوّل ، لأنه وجود آخر ، وليس نفسَ وجود الأوّل . وما أشْبَهَ مسألتَنا هذه بمسألة إعادة المعدوم يوم القيامة ، إذ نقول هناك أيضاً بأنه لا يمكن إعادة المعدوم عقلاً ، لأنه وجود آخر ، مهما كان التشابه بينهما ، ولذلك نقول بأنّ الإنسان لا يعدم تماماً ، وإنما تبقى روحه موجودة ، ليتعذّب هو نفسُه . المهم هو أنّ أركان الإستصحاب غير تامّة في هكذا حالة ، لأنّ النظر هو إلى الخارج .

على أنّ هذا الإستصحاب هنا أيضاً هو إستصحاب في الشبهة الحكميّة ، وذلك لأنّنا ـ على الأقلّ ـ نشكّ في صحّة هكذا استصحاب ، والأصلُ عدمُ التعبّد به ، أي عدم حجيّته ، حتى يثبت ، طالما نستبعد وجودَ إطلاقٍ في أدلّة الإستصحاب لهكذا حالة ، بمعنى أنّ (لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ) يَبْعُدُ نظرُها إلى هكذا حالة ، وبالتالي يَبْعُدُ التمسّكُ بإطلاق اللفظ .

وإنْ كان المستصحب هو الكلّي من حيث هو كلّي ، كما لو كان المستصحَبُ المشكوكُ البقاء مشكوكَ البقاء في بعض مراتبه ، كما في الأعراض ، كالألوان والكيفيّات ، فلو كان لون الثوب ـ مثلاً ـ أسودَ ، ثم غسلناه بمادّة معيّنة ، فشككنا : هل خَفّ لونُه حتى صار رماديّاً ، وهو أدنى مراتب السواد ـ لا كانتقال الحمرة الشديدة إلى الصفرة ، فإنهما متغايران ـ أو زال عنه السواد بالكليّة ؟ فهل لنا أن نستصحب كلّيّ السواد ؟

الجواب هو أنه لا يبعد لزوم استصحاب كلّيّ السواد في هكذا حالة ، لأنّ الشكّ في هكذا حالة هو شكّ موضوعي واضح . ومثله في كلّ لون شديد شككنا في زواله تماماً أو في بقائه ولو بأدنى مراتبه ـ كما في البياض ـ فإننا نستصحب بقاء كلّيّ اللون ، ولا نبني على زواله بالكليّة . ومثله في الكيفيّات مثلاً ، فلو شككنا هل خرج الإمام في صلاة الجماعة عن حدّ الركوع أم لا يزال في حال الركوع ، ولو في أدنى مراتب الركوع ، فإنّ لنا أن نستصحب كلّيّ الركوع ، ولو في أدنى مراتب الركوع . وكذا لو شككنا في الكيف الملموس ، فمثلاً : لو شككنا هل زالت كلّ الخشونة أم أنها بقيت ولو بأدنى مراتبها ، فإننا نستصحب بقاء كلّيّ الخشونة ولو بأدنى مراتبها .

المهم هو أنّ الإستصحاب هنا هو استصحاب للكلّي ، إذا نظرت إلى الكلّي ، أي إذا نظرت إلى الجامع الشامل لكلّ مراتب البياض ـ مثلاً ـ المحتملة البقاء ، وهو بهذا يغاير مثال زيد وعَمرو السابق ، حيث التغاير بين زيد وعمرو ذاتي وجوهري ، دون موارد الأعراض ، حيث التغاير بالمراتب فقط .

مثال آخر : حينما نُسِخَ حكم سجن المرأة الزانية مدى العمر ، بجلدها أو رجمها ، فهل يبقى سجنها مدى العمر ـ ولو مع عدم بسط يد الحاكم ليجري عليها الحدّ الشرعي الجديد ـ مستحبّاً أو جائزاً ، بمعنى أنّ الله تعالى حين رَفَع الوجوبَ هل أنزل الإستحبابَ أو الإباحةَ محلّ الوجوب في نفس الوقت ، أم أنه رفع كلّ الحكم السابق ، ولم يبقَ من الحكم شيءٌ لا الإستحباب ولا الجواز ؟ وبتعبير آخر : هل لنا أن نستصحب كلّي جواز السجن ـ أي الجواز بالمعنى الأعمّ الشامل للوجوب والإستحباب والإباحة ـ أو ليس لنا ذلك ؟ يحتمل جداً بقاءُ الإستحباب ، أو على الأقلّ الإباحة ، وذلك لاستبعاد زوال الملاك بكلّ مراتبه ، حتى الإباحة ، فيتحوّل إلى الكراهة أو الحرمة !!

قال الشهيد السيد مصطفى الخميني : ( القسم الرابع من استصحاب الكُلّي وهو ما إذا كان منشأ الشك أمْراً أجنبياً معلوم الوجود والثبوت ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة ، فإنه ـ حسب العلم الإجمالي ـ يعلم تفصيلاً بتنجز كلٍّ من الظهر والجمعة ، فإذا أتى بواحدة منهما في المثال ، أو تلف أحد الأطراف في سائر الأمثلة ، أو خرج عن محل الإبتلاء ، أو اضطر بعد العلم إلى معين وهكذا ، وشك في هذه المسألة الأصولية ، وهو بقاء تنجز وجوب غير المأتِيّ به وما هو الموجود المبتلى به ، فإنه يصح أن تستصحب الحجيةُ في غير المقام[1] ، وفي المقام أيضاً يستصحب تنجز الوجوب ، وأنه لو صادف الواقع تصح العقوبة عليه ، وهذا المقدار من الأثر كاف ، كما في استصحاب الحجية )[2] .

وهذا غير القسم الثالث والثاني ، لأنه بالنسبة إلى عنوان الوجوب من الثاني ، فإنه إما كان قد أتى به فقد سقط ، أو لم يأتِ به فقد بقي ، وأما بالنسبة إلى عنوان تنجز الوجوب فليس الأمر كذلك .


[1] أقول : إستصحاب تنجّز الطرف الباقي أمامنا ليس من باب استصحاب الكلّيّ، وكذا وجوب الإتيان بالصلاة الثانية ليس من استصحاب الكلّي، وإنما هما من باب تنجّز العلم الإجمالي بلحاظ كلا الطرفين، وعدمِ زوال التنجّز بفناء أحد الإناءين، أو بالإتيان بإحدى الصلاتين .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo