< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/01/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : جريان الإستصحاب في الكلّيّات

 

2 ـ جريان الإستصحاب في الكلّيّات

لا شكّ أنك تعلم أنّ المراد من (الإستصحاب في الكلّيّات) هو استصحاب بقاء الجامع بين شيئين خارجيين ، بشرط أن يكون لهذا الجامعِ أثرٌ شرعي ، كما في حرمة مسّ كتاب الله الكريم ، المترتّبةِ على جامع (الحَدَث) بما هو معبّر عن حالة معنويّة نازلة عند الشخص لا تسمح له بمسّ كتابِ الله الكريم ، فالحرمةُ لا تترتّب على خصوص الحدث الأكبر ولا على خصوص الحدث الأصغر ، وإنما تترتّب على جامع (الحدَث) ـ كما قلنا ـ ، والحدثان الأكبرُ والأصغر مصداقان من مصاديق الحدث ، ولك أن تعبّر عن الكلّي بالجنس أحياناً ، كما هو معلوم ، لكن لا يفضَّل أن يعبّر بالجنس ، لأنّ الجنس هو الجامع الحقيقي بين ذاتيّات الأنواع ، كالإنسان ، فالإنسان هو جامع بين ذاتيّات الناس ، ولكن لا يفضَّلُ استعمالُ لفظة جنس لأنّ الجامع قد لا يكون جامعاً بين الذاتيّات أحياناً ، كما في الحدث ـ الجامعِ بين الأصغر والأكبر ـ فإنه أمْرٌ اعتباري شرعي ، وليس جامعاً حقيقيّاً بين ذاتيّاتهما .

ثم لا شكّ أنك تعرفُ أنّ الكلامَ قد كان فيما مضى في استصحاب الاُمور الجزئيّة ـ كاستصحاب طهارة الثوب ـ ، والكلامُ الآن في استصحاب الاُمور الكلّيّة ، ومرادُنا من الكلّي هنا هو الجامع بين الجزئيّات الموضوعيّة الخارجيّة ، أو قُلْ إنّ مرادنا من الكلّي هنا هو العنوان ، أي الكلّي الطبيعي الذي له مصاديق في الخارج ، فالكلي إذن هو الكلّي السعي الذي فيه سريان تخيلي يشمل مصاديقه ، كالإنسان المنبسط على الناس ، وحيث لا قصور في شمول أدلّة الإستصحاب للكليّات ، يصحّ هذا البحث ، فأنت يصحّ لك أن تقول : "إذا كان زيد موجوداً في المسجد فالإنسانُ إذن موجود فيه ، والحيوان موجود فيه ، والجوهر موجود ، والعرَض موجود" ، وكذلك إذا كان شخصٌ محْدِثاً بالأكبر مثلاً ، فهو إذن (محْدِث) بنحو الكلّي الطبيعي ـ أي الشامل للحدث الأكبر والحدث الأصغر ـ فيصحّ أن يقول "أنا محْدِث" من دون تعيين ، وإذا أحدث بالحدَث البَولي فقد أحدث بالحدث الأصغر ، وهو أيضاً حدَثٌ كلّي .

وبتفصيلٍ أكـثر : إذا أحدثتَ بالحدَث البَولي ثم شككت بالوضوء بعد ذلك ، فإنْ كنتَ ناظراً إلى خصوص الحدث البولي فعليك أن تستصحب بقاءَ الحدثِ البَولي ـ أي الحدث الجزئي ـ ، ولك أن تنظر إلى الحدث الأصغر ـ كَكُلّيّ ـ فتستصحب بقاءَ الحدث الأصغر ، الذي هو كلّيّ ، ولك أن تنظر إلى الحدث الكلّي الأعمّ من الأكبر والأصغر ، فتستصحب أيضاً بقاءَه ، لأنّ الشارع المقدّس يقول "لا تنقضِ اليقينَ بالشكّ" ، إذن فيصحّ الإستصحابُ في الكليّات .

وهكذا إذا شككتَ في بقاء زيد ، فإنْ نظرتَ إلى خصوص زيد فإنك تستصحب بقاء زيد في المسجد ، وهو استصحاب للجزئي ، وإن نظرتَ إلى وجود إنسان في المسجد فعليك أن تستصحب وجود إنسان في المسجد ، وهو استصحاب للكلّي ، وإنْ نظرتَ إلى وجود (حيوان) ـ الأعمّ من الإنسان ـ في المسجد ، فإنك تستصحب وجودَ (حيوان) في المسجد ، وهو أيضاً استصحاب للكلّي ، إلاّ أنّ (الإنسان) هو كلّي قريب ، و(الحيوان) هو كلّي بعيد .

لكنْ من الطبيعي أنّ الآثار إنما تترتّب على المستصحَب الحقيقي فقط ، وهو الأضيق دائرةً ، فلو كان المستصحَب الحقيقي هو الحدث الأصغر كان الأثر الشرعي هو المختصّ بالأصغر ، لا مطلقاً كحرمة دخول المساجد ، ولو كان المستصحبُ الحقيقي هو بقاء البول ، كان الأثر هو لزوم البناء على بقاء نجاسة البول ، لا مطلق النجاسة ، الشاملة لنجاسة ولوغ الكلب مثلاً ، وعليه فلو شككنا في بقاء نجاسة البول فإننا نستصحب خصوص هذه النجاسة ، لا مطلق النجاسة ، ولو شككنا في ارتفاع الحدث البولي فإننا نستصحب بقاء خصوص الحدث البولي ، لكنْ لأنه لا فرق بين الحدث البَولي والحدث النَّومي والحدث الريحي من حيث الآثار ، نقول بأننا نستصحب بقاء الحدث الأصغر ، وإلاّ ففي الواقع فإنّ المستصحَب هو الأضيق دائرةً وهو خصوص الحدث البولي . وهكذا في مثال الشكّ في بقاء (إنسان) في المسجد ، فإننا في الواقع إنما نستصحب بقاء زيد ، لكنْ لأنّ زيداً هو إنسان ، والإنسان موجود فيه ، فنحن نستصحب أيضاً بقاء (الإنسان) ، وفي الواقع هو استصحاب لأمر جزئيّ لا لأمر كلّي ، وإن توهّم بعض الناس أنّ استصحاب (الإنسان) هو دائماً استصحاب لأمر كلّي ، فإنك قد تستصحب بقاءَ (الإنسان) كأمْرٍ جزئي ، وقد تستصحبه كأمْرٍ كلّي ، وكلاهما يصحّان ، والأمر دائر مدار النظر ، فقد تنظر إلى زيد من حيث هو متعجّب أو ضاحك أو ماش ، فتستصحب بقاءَ المتعجّب في المسجد أو الضاحك أو الماشي ـ الذي هو أعمّ من المتعجّب والضاحك ـ ، وهذا الإستصحاب صحيح إذا كان الأثر الشرعي يترتّب على وجود الضاحك أو الماشي ...

على كلّ ، إستصحابُ الكلّي ـ كاستصحاب الإنسان والحدث والحدث الأصغر والخبث ـ هو أمر متعارف ، إلاّ أنّ عوامّ الناس قد لا يلتفتون إلى أنّ المذكورات هي أمور كلّيّة .

يبقَى أنّ الكلّي قد يكون حقيقيّاً واقعيّاً ـ كالإنسان ، الجامع بين ذاتيّات زَيد وعمرو ـ وقد يكون اعتباريّاً شرعيّاً ـ كالحدَث ، الجامع بين الأصغر والأكبر ، فإنّ اعتبار خروج البول سبباً للحدث دون التقيّؤ هو أمر اعتباري شرعي محض ـ وقد يكون انتزاعيّاً ـ كالشيء ، الجامع بين الله تعالى والملك الروحاني والإنسان والحجر ـ .

إذا اتّضحت هذه المقدّمة نقول : يقع الكلامُ هنا في جهتين :

الجِهَةُ الاُولَى : في أصل صحّة إجراء استصحاب الكُلّي

قد عرفت ممّا مضى ـ في المقدّمة السابقة ـ صحّةَ استصحاب الكلّي ، تمسّكاً بإطلاق أدلّة الإستصحاب ، مع عدم وجود أيّ مانع من الإستصحاب في الكلّي ، إلاّ أنه ـ مع ذلك ـ قد يُعترَضُ على إجراء استصحاب الكُلّي بأنّ الأثر الشرعي مترتب ـ في الواقع ـ على أفراد الجامع لا على الجامع بعنوانه ، ذلك لأنّ الجامع إنما يؤخذ موضوعاً بما هو مُعَبِّرٌ عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهني ، فلا بُدَّ إذَنْ من إجراء الإستصحاب فيما اُخِذَ الجامعُ مُعَبِّراً عنه ومرآةً له وهو الخارج ، وليس في الخارج إلا الفرد . وبتعبيرٍ آخر : حرمةُ مسّ كتاب الله الكريم تترتّب على نفس النوم ، فلم يعد هناك أيّ قيمة للجامع ، لأنّ الجامع إنما يكون في الذهن فقط ، ولا يترتّب على الجامع الذهني شيءٌ ، لا حرمة ولا أيّ شيء آخر ، لأنه مفهوم ذهني محض ، وأمّا الحرمةُ فإنها تترتّب على نفس الحدث الخارجي . فالموجود في الشرع هو "إنْ أحدَثَ الشخصُ بالنوم مثلاً فلا يجوز له أن يَمَسّ كتابَ الله تعالى" ، ومعنى هذا أنّ الحرمة تترتّب على الحدث الخارجي ، لا على الجامع ، الذي هو أمرٌ ذهني محض ، لا تترتّب عليه الحرمةُ .

فيَرِدُ عليه : اَنّ موضوع الحكم واِنْ كان هو الجامعَ والمفهومَ ، لكنه يصحّ أن يُستصحب إنْ نُظِرَ إليه بما هو مرآةٌ للخارج وعنوان عنه ـ لا باعتباره أمراً ذهنياً محضاً ـ ، والإستصحابُ يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج أيضاً ـ كجامع الحدث ـ ، وهذا هو الأمر الطبيعي في موضوعات الأحكام ، وذلك لأنّ الإستصحاب هو حكم شرعي ، والأحكام الشرعيّة كلّها إنما تنصبّ على العناوين الجامعة ، تقول ـ مثلاً ـ : يجب على المكلّف إذا زالت عليه الشمسُ أن يصلّي متطهّراً . فالمكلّف عنوان جامع ، وزوال الشمس عنوان جامع ، وطهارة الثوب عنوان جامع ... وهكذا ، ولا نتصوّر وجودَ أحكام شرعيّة أو قانوناً في العالَم إلاّ أن يكون موضوعُه عنواناً كليّاً .

إذن لا فرق ـ مِن هذه الناحية ـ بين استصحاب الفرد ـ كما في استصحاب طهارة هذا الثوب المعيّن ـ واستصحاب الكُلّي ـ كما في استصحاب كُلّي الحدَث ـ فلو خرج من الشخص بولٌ أو منيّ ، ثم توضّأ فقط ، ولم يغتسل ، فإننا نستصحب بقاءَ كلّيّ الحدَث ، كما هو المعروف بين العلماء ، ولعلّه مجمَعٌ عليه أيضاً ، ويصحّ أن تعبّر عن هذا الإستصحاب بأصالة الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، إذ في كلتا الحالتين إنما نستصحب واقعاً خارجيّاً ، سواءً كان المستصحب فرداً أو كلّياً جامعاً ، حيث إنّ استصحاب كلّي الحدثِ المرادُ منه استصحابُ بقاء أمر خارجي ، وهو أحد الحدثَين . والذي يحدِّدُ اِجراءَ الإستصحاب بهذا النحو أو بذاك هو كيفيةُ أخْذِ الأثرِ الشرعي في لسان دليله .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo