< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/07/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : لزوم الفحـص في الأمارات قبل إجراء الاُصول المؤمّنة

الأمر الثالث : لزوم الفحـص في الأمارات قبل إجراء الاُصول المؤمّنة
والكلام هنا يقع في جهات ثلاثة :
الاُولى في الفحص عن جهة السند والصدور
الثانية في الفحص عن جهة الدلالة والظهور
والثالثة في وجوب الفحص والتعلّم قبل الوقت مع العلم أو الخوف من عدم التمكّن منه أثناء وقت الواجب المؤقّت

أمّا الجهة الاُولى ـ وهي الفحص عن جهة السند والصدور ـ فيقع الكلامُ فيها في مقامين :
الأوّل : في الفحص في الشبهات الحكميّة
والثاني : في الفحص في الشبهات الموضوعيّة

نلخّص أوّلاً ما قلناه سابقاً ونكمل البحث فنقول :
المقام الأوّل : لا شكّ عند المسلمين، بل عند العقلاء أجمعين، في لزوم الفحص في الأدلّة الشرعيّة المحرِزة قبل الإقدام على إجراء الاُصول العمليّة وقبل الإفتاء على أساس الاُصول المؤمّنة ـ كالبراءتين العقليّة والنقليّة وكأصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين وكأصالتَي الطهارة والحليّة في الشبهات الحكميّة ـ وذلك لِعِلْمِنا القطعي بوجود أحكام شرعيّة إلزاميّة ... هذا على صعيد حكم العقل والعقلاء والمتشرّعة .
وأيضاً على صعيد الآيات الكريمة الأمْرُ كذلك، فإنك تفهم من قوله تعالى﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[1] أنه إذا بَعَث اللهُ تعالى رسولاً فله أنْ يُعَذّب على المخالفة، ولذلك يجب أن نبحث حتى نعرف هل أنّ الله تعالى بعث في هذا الأمر الفلاني رسولاً وبياناً أم لا . ومثلُها تماماً قولُه تعالى﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون[2] وقوله عَزّ مِن قائل﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[3]، وقال اللهُ تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)﴾[4] حيث ورد عدّة روايات تقول نحن أهل الذكر، فتجب عليكم مسألتنا[5][6] ... فهذه الآيات المباركة تأمرنا بالتفقّه في دين الله بأن نسأل أئمّتنا (عليهم السلام) الذين هم اليوم عبارة عن أقوالهم المباركة، وأيضاً لك الإستدلال بقوله سبحانه ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ، فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) ﴾[7] وذلك ببيان أنّ وجود كتب روائيّة وفقهيّة في متناول الناس لَهِيَ حجّةٌ بالغة على الناس، لا تجوّز لهم إجراءَ الاُصولِ المؤمّنة قبل الفحص التامّ . إذن علينا أن لا نُبقي أنفسَنا في جهالة وأن لا نُغْمِضَ أعينَنا عن الدين ونجري البراءة .
وكذلك الأمرُ في الروايات، كحديث الرفع وروايات وجوب التعلّم فهي تفيدنا وجوبَ التعلّم والتعرّف على أحكام دين الله، وعدمَ جواز تجهيل النفس وإغماضِ العَين عن الروايات وإجراء البراءة .

أمّا مقدار الفحص فلعلّ المشهور هو لزوم الفحص بمقدار حصول اليأس , وهو حصول الإطمئنان بعدم وجود أمارة أو قرينة أو قيد لما نحن بصدده، فبعدئذ لنا أن نجري البراءة، بهذا يحكم العقل، وإلاّ لوقعنا في محذور مخالفة الكثير من أحكام الإسلام .
ثم من الطبيعي أنه يجب أن يكون الحكم الشرعي واصلاً للناس بشكل يمكن الوصول إليه بشكل عادي، بحيث لا يُحرَجون في إيجاده ولا يحتاجون إلى البحث الكثير ليجدوه، ذلك لأنّ الله تبارك وتعالى بَعَث الأنبياءَ والأوصياء لهداية الناس، لا لإخفاء الأحكام، وإلاّ لما بعثهم من الأصل، وهذا ما نفهمه أيضاً من الآيات الكريمة الكثيرة من قبيل قوله تعالى(حتى نبعث رسولاً ) فيجب أن يكون الرسول واضحاً معلوماً ويمكن الوصول إليه بشكل طبيعي، وكذلك قوله تعالى( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون ) يجب أن يكون البيان واصلاً للناس بشكل واضح يمكن الوصول إليه ومعرفته، لا أن يكون مخفيّاً عليهم في كتاب لا يكاد يصل إليه إلاّ ذو حظٍّ عظيم، ومثلهما الكثير من الآيات من قبيل( إنّي لكم نذيرٌ مبين ) أي واضح، يمكن الوصول إليه بشكل عادي لاستعلام أحكام الله وأحكام دينه .
إذن أحكام الله تعالى بيّنة واضحة، لكن يجب فتح الكتاب، لا إغماض العين، ويجب البحث بشكل عادي، وبالتالي يصير مقدار الفحص الواجب هو المقدار العادي، ويكون إيجادُ التكليف أمراً لا يُحرِج .

وأمّا المقام الثاني : فلا شكّ ولا خلاف في عدم وجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعيّة، كما في موارد الشكّ في طروء النجاسة، وهذا أمْرٌ وَرَدَ في الشرع، لاحِظْ مثلاً :
1 ـ ما رواه في التهذيبين باسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة قال قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني ـ إلى أن قال ـ قلت : فهل عليَّ إن شككتُ في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ فقال : ( لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك )[8] صحيحة السند . ورواها الصدوق بنفس السند عن أبي جعفر (عليه السلام).
2 ـ وأيضاً في التهذيبين بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي جعفر عن أبيه عن (القاضي) حفص بن غياث[9] عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليه السلام)قال : ( ما أبالي أبول أصابني أو ماء، إذا لم أعلم )[10] موثّقة السند .
ولكن الكلام في بعض الشبهات الموضوعيّة كما فيما لو شكّ الشخصُ في حصول استطاعته على الحجّ، وكما في شكّ الشخصِ في حصول نصاب الزكاة عنده، وكما في لزوم الفحص عن الأعلم بين المجتهدين .. وهكذا، فهل يجب فيها الفحص عقلاً أوّلاً، وشرعاً ثانياً أو لا ؟
الجواب: لا شكّ أنّ العقلاء يشكّكون كثيراً في جريان أصالة البراءة في هكذا موارد، لا بل لا يبعد أنهم يرون لزوم التحقّق من حصول الإستطاعة ونصاب الزكاة وأنهم يعتبرون أنّ إغماض العين عن التحقيق هو نوع تقصير مع الله وتهرّب من التكليف الإلهي، لا بل إنّ الإرتكاز العقلائي الفطري يقتضي لزومَ الفحص في الشبهات الموضوعيّة للوصول إلى الحقيقة، ولذلك إن عَرِفَ بك العقلاءُ أنك لا تفحص مقدارَ مالك فإنهم سيستهجنون منك قطعاً، بل قد يعتبرونك فاسقاً ومتهرّباً من تنفيذ أحكام الله سبحانه وتعالى، وأقل ما سيقولونه لك : كيف يمكن إذَنْ أن تعرف نفسَك أنك مستطيع إنْ لم تفحص وتدقّق في حساباتك ؟! هذا كلّه على مستوى البراءة العقليّة .
وأمّا على مستوى البراءة الشرعيّة فهل الجواب هو نفس الجواب على البراءة العقليّة وأنه يجب الفحصُ أم لا ؟ أي هل تجري قاعدة البراءة الشرعيّة هنا أم لا ؟
قد تستدلّ بقول الله تعالى﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ ما آتاها[11] [12] على عدم وجوب التحقيق، وعلى جواز إغماض العَين عن مقدار المال .
فأقول : لكنّ اللهَ تعالى قد آتاك المال وأقدرك على معرفة مقداره، وهذا يكفي عرفاً في صِدْقِ الإيتاء، لكنْ أنت أغمضْتَ عينيك وأردتَ أن تتهرّب من الحجّ أو مِن دفْعِ الزكاة، فيجب أن تكون مكلّفاً . أو قُل : هذا أشبه شيء بإعطائك كتاباً لتدرس فيه، ولكن أنت لم تمدّ يدَك لتأخذه . بل إنّ اهتمام الشارع المقدّس في بعض الأحكام الشرعيّة أمارةٌ على وجوب التحقيق في مقدار المال، فمثلاً : كم ورد في الشرع اهتمام الشرع بالحجّ كثيراً جداً، وأنّ من استطاع على أن يحجّ ولم يحجّ فليمت إن شاء نصرانيّاً أو يهوديّاً أو مجوسيّاً، وأنه كافر وو .. وكم ورد من روايات أنّ الله تعالى حسب عدد الفقراء في كلّ زمان ومكان فجعل لهم من مال الأغنياء ما يكفيهم .. كلّ هذا الإهتمام يَخلُقُ عند الفقيه الظنَّ القويّ في لزوم الفحص عن احتمال حصول الإستطاعة وحصول النصاب .
وأمّا مقدارُ الفحص فيكفي أيضاً في الشبهات الموضوعيّة الفحصُ بالمقدار العقلائي المتعارف ـ كما قلنا في الشبهات الكميّة ـ وذلك بدليل أنه مقتضى الإرتكاز العقلائي، فيسأل مثلاً مِن مجتهدَين اثنَين عن الأعلم بين المجتهدين، ومع التعارض يزيد قليلاً حتى يطمئنّ، إطمئناناً عرفيّاً أيضاً، ولا يوقع نفسَه في الحرج، ويفحص في ماله بالمقدار المتعارف، وهكذا .

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي الفحص عن جهة الدلالة والظهور ـ فيقع الكلام فيها في مقامين :
الأوّل : في لزوم الفحص في معاني آيات الأحكام وروايات الأحكام لنعرف مرادات الله جلّ وعلا والنبيّ والأئمّة عليهم صلوات الله، وهو بحث يَتكفّل فيه (بحثُ الظهورات) من الإطلاق والعموم، والمفاهيم، والحاكم والمقيّد والوارد وأبحاث التعارض في الظهورات، كبحث الجمع العرفي ... إلخ . وتحقّقُ صغرى الظهور عند فقهائنا العرب سهل يسير، وذلك لكونهم ـ خاصةً بعد الممارسة ـ أهلَ اختصاص بلغة أئمّتنا (عليهم السلام) . لكن مع ذلك مِنَ الطبيعي أن يكون فَهْمُ الفقهاءِ القدماء العرب وفهْمُ اللغويين العرب القدماء أقربَ إلى الصحّة من فهْمِ العرب غير الفقهاء، ومن الفقهاء الأعاجم، ومن الفقهاء العرب البعيدين عن النصّ، وذلك للجهات الثلاث المذكورة ـ أي العُرُوبة والقِدَم والفقاهة ـ فيمكن إذن أن يُستفاد مِنْ فَهْمِ الفقهاء العرب القدماء .


[9] عامّيّ، له كتاب معتمد ـ ست، وقال الشيخ في العدّة : عملت الطائفة بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه، ويروي عنه في الفقيه مباشرةً.
[11] قال الله تعالى ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ، لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً .(7)) سورة الطلاق

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo