< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/07/13

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الكلام في حجيّة قول اللغَويّ

كان الكلام حتى الآن حول الظهور، صغرى وكبرى، وقلنا بأنّ الكلام إذا أفاد الظنّ فهو حجّة، لأنّ المتكلّم لا يتكلّم بما ظاهره شيء ويريد منه شيئاً مخالفاً، لأنّ ذلك خلاف الحكمة والنهج العقلائي، ولذلك يطمئنّ السامعُ عادةً بإرادة المتكلّم المعنى الظاهرَ عرفاً، لذلك فالظاهرُ يفيدُ الظنّ في المرحلة البدْويّة وهي مرحلة الدلالة التصوّرية، ويفيد الإطمئنان في مرحلة الدلالة الجديّة أي بعد التأمّل .
أمّا إنُ عُلِم أنّ المتكلّم ليس جادّاً في إفادة الحكم الواقعي، وإنما هو في تقيّة فلا يؤخذ ح بظاهر الكلام، لكنْ إنْ شُكّ في أنّ المتكلّم في تقيّةٍ أم لا ـ أي لم يوجد قرائن توضّح أنه في حال تقيّة ـ فالأصلُ أنه يتكلّم لإبراز الواقع، أي أنّ الأصل عدم التقيّة، وهذا ما يعبّرون عنه بـ أصالة الجهة[1]، أي الأصل أنه جادّ ويريد تبيين الواقع، وهذه كلّها اُمور مجمَعٌ عليها .

قيل إلاّ في قول اللغوي الثقة، فإنه حتى وإن لم يُفِد قولُه الظنّ فهو حجّة في تعيين المعنى الحقيقي للألفاظ ! وذلك بادّعاء أنه أهلُ خبرةٍ في ذلك ! ولذلك استقرّت سيرةُ العلماء والشعراء والبلغاء على التمسّك بقول اللغوي في مقام الإستدلال ! ولعلهم ادّعَوا إمضاءَ هذه السيرة أيضاً !! فلو قال اللغوي "المراد من الصعيد هو مطلق ما على الأرض من تراب وحشائش ونباتات خضراء ويابسة وكِلْس وجُصّ وأسمنت" فعلينا أن نقول ح بجواز التيمّم على المذكورات كلّها، ولو قال "المراد من الصعيد هو التراب" فعلينا أن نتّبعه، ولا نجوّز التيمّم على الرمل والحجر !! وكذا لو قال "المراد من الغناء هو الصوت المشتمل على المدّ والترجيع" لحَرُمَ ح تجويدُ القرآن بهذه الكيفية، ولَحَرُمَ تجويدُ الأذان، وترتيلُ الأناشيدِ الإسلامية المعروفة !! ولو قال "هو خصوص الصوت المطرب" لجاز استماع الغناء الغير مطرب، ولو لكون المغنّي مبحوح الصوت مثلاً أو كان غير جيد في الغناء .
وهي توهّمات وادّعاءاتٌ لم تثبت شرعاً ولا عقلائياً، وذلك لوضوح عدم معرفته بأكثر من الإستعمالات، فهو ليس من أهل الخبرة في الأوضاع كالطبيب والمهندس والفقيه، فإنّ هؤلاء خبراء في علومهم، بخلاف اللغوي الذي لا يملك أكثر من موارد الإستعمالات، والإستعمالُ أعمّ من الحقيقة .. نعم، القدر المتيقّن من السيرة هو ما أفاد الإطمئنان بالوضع، لكنْ هذا من باب حجيّة الإطمئنان، لا من باب حجيّة قول اللغوي، مع أنّ من المعلوم أنّ أهل اللغة إنما يعرفون المعاني من خلال كثرة الإستعمال، وهم يفيدون ذلك في كتبهم، فإن أفادتنا كثرةُ الإستعمالات في شتّى الموارد الوضعَ فبها، وإلاّ فقد يكون الإستعمالُ مجازيّاً . يقول السيد الشهيد الصدر إنّ القول عند المتأخّرين انقلب إلى عدم حجيّة قول اللغوي[2].
فإن قلتَ : يمكن الإستدلالُ على حجيّة قول اللغوي بما دلّ على حجيّة خبر الثقة في الأحكام، وذلك لأنه يخبر عن الحكم، أو قُلْ : هو يخبر عن المدلول التصوّري للحكم .
قلتُ : هو نفس اللغوي لا يدّعي أكثر من معرفته بموارد الإستعمالات، فهو غير خبير من غير موارد الإستعمالات ـ كما نقول في الإجماع المَدْرَكي ـ فإن كان دليله مذكوراً ـ كما هي عادتهم ـ فعلينا أن نرجع إلى أدلّتهم، وهي استعمال اللفظ في شتّى الحالات كي نعرف أنّه هو المعنى الحقيقي، وإلاّ فمجرّدُ استعمالِهم كلمة (أسد) في معنى (شجاع) في جملةَ "زَيدٌ أسَدٌ " ـ مثلاً ـ لا يدلّ على وضع كلمة (أسد) في معنى (شجاع)، وذلك لأننا نلاحظ أننا نستعمل لفظة (أسد) في الحيوان المفترس المعروف من دون قرينة، أمّا استعمالُهم كلمةَ (أسد) ـ في قولهم "زيد أسد" ـ فقد كانت مع ذِكْرِ كلمة (زيد) ومع قرينة المديح والتشبيه المليح، وهاتان قرينتان واضحتان في كون استعمالِ كلمةِ (أسد) ـ في قولهم "زيد أسد" ـ استعمالاً مجازيّاً، وليس حقيقياً، كما هو واضح، وأمّا إذا قيل لك ـ وأنت في غابة حيوانات مثلاً أو في حديقة حيوانات ـ "هذا أسد" من دون قرينة، وكان يوجد هناك رجل شجاع أيضاً، فإنّ ذهنك سيتبادر فوراً إلى الحيوان المفترس المعروف، وليس إلى الرجل الشجاع، ولذلك تراهم لا يستعملون لفظة (أسد) في الرجل الشجاع إلا مع القرينة .
ولا بأس بذِكْرِ ما أفاده صاحبُ الكفاية قال : ( نُسِبَ إلى المشهور حجيةُ قولِ اللغوي في تعيين الأوضاع، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الإحتجاج بلا إنكار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج، وعن بعض دعوى الإجماع على ذلك . وفيه : أن الإتفاق ـ لو سُلِّمَ اتفاقُه ـ فغير مفيد، مع أن المتيقن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة . والإجماعُ المحصلُ غيرُ حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة مما يُحتمَلُ قريباً أن يكون وجه ذهاب الجُلّ لولا الكل، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها . والمتيقَّنُ من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والإطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الإستعمال، بداهة أنّ هَمَّهُ ضبْطُ مواردِه، لا تعيين أنّ أيّاً منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلا لوضعوا لذلك علامة، وليس ذِكْرُه أوّلاً علامةَ كونِ اللفظ حقيقة فيه، للإنتقاض بالمشترك . وكونُ موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى ـ لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، وإن كان المعنى معلوماً في الجملة ـ لا يوجب اعتبار قوله ..) (إنتهى) .
وبالتالي ـ وبعد عدم اعتبار قول اللغوي لعدم ثبوت ذلك ـ يجب الرجوع إلى الاُصول العملية في مواضع الشكّ والإجمال في المعنى، ففي الأمثلة السابقة نتيمّم بخصوص التراب ـ مثلاً ـ، ومع الشكّ في حدود الغناء نحرّم القدر المتيقّن منه .. وهكذا ..
هذا ولكنْ عدمُ حصول الإطمئنان بالمعنى من خلال كتب اللغة وكثرة الإستعمالات أمْرٌ نادر، يَعرف ذلك المتتبّعُ الخبير، خاصةً في مِثل كتاب (لسان العرب) وغيره من الموسوعات اللُغَوية المطوّلة، وغالباً ما، يعرف الفقيه الخبير ما كان العرب ـ في زمان ورود النصّ الفلاني ـ يفهمونه وتتبادر إليه أذهانهم من الكلام، ولو من قرائن خارجية .. فالرجوعُ إلى الاُصول العملية ـ بالتالي ـ أمْرٌ نادر أيضاً، على أننا لا نريد أن نعرف المعنى الحقيقي من المجازي، إنما نريد أن نعرف بم كانوا يستعملون اللفظ في أيام المعصومين (عليهم السلام)، على أنّ فرض كلامنا إنما هو في اللغوي الثقة، ونحن نقول بحجيّة قول الثقة في الموضوعات، بناءً على قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ][3] فهي تعتبر خبر العادل في الأخبار ـ أي الثقة ـ بيّناً أو قُلْ بياناً وعِلْماً، لأنه لا يحتاج إلى تبيّن وتأكّد، بخلاف خبر الفاسق، ولذلك فإذا اعتمدت على خبر العادل فإن اللوازم الأخرى تترتّب، فمثلاً : لك أن تتّهم قوماً بناءً على قول العادل رغم خطورة هذا اللازم ..




[1] الظاهر أنّ أوّل مَن عَبّر بتعبير أصالة الجهة هو المحقّق العراقي+، تلاحظ ذلك في الحاسوب، والمراد منها أصالةُ إرادة إبراز الواقع، وليس أصالة الجديّة وعدم الهزل، لأنّ كلامنا دائماً أو غالباً ناظر إلى كلام المعصومين عليهم السلام، وهم ليسوا في مقام الهزل .
[2] راجع مباحث الأصول لاُستاذنا السيد كاظم الحائري حفظه الله/ الجزء الثاني من القسم الثاني/ بحث قول اللغوي ص 257 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo