< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/25

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الكلام في ادّعاء المحقّق القمّي حصْرَ الحجيّةِ باستظهار المخاطَبين فقط

الكلام في ادّعاء المحقّق القمّي حصْرَ الحجيّةِ باستظهار المخاطَبين فقط :
إدّعى المحقّق القمّي في القوانين أنّ الظهور الحجّة هو ما يستظهره خصوص المخاطَبين، سواء في الكتاب الكريم أم في السنّة الشريفة، نعم يحصل ظنّ ـ عند غير المشافَهين البعيدين عن مجلس المخاطبة زماناً أو مكاناً ـ بالمراد من الكتاب الكريم أو السنّة الشريفة، وليس عندنا دليل على حجيّة استظهاراتنا من القرآن الكريم أو السُنّة الشريفة إلاّ الظنّ بأنّ مرادهم هو ما نستظهره نحن البعيدين عنهم زماناً أو مكاناً، ولِعِلْمِنا بأنّ القرآن الكريم نزل لكلّ زمان ومكان وكذلك كلمات المعصومين يتعيّن علينا اتّباع ذلك الظنّ، وإلاّ لخرجنا من الدين بالكليّة ...
وإليك بعض كلماته قال : (وأما السنة المعلومة الصدور عنه صلى الله عليه وآله فيحتمل ضعيفاً أن تكون مثل المصنفات والمكاتيب، والأظهر أن يكون المراد منها تفهيم المخاطبين وبلوغ نفس الحكم إلى مَن سواهم بواسطة تبليغهم، ومع ذلك فلا يعلم من حاله رضاه صلى الله عليه وآله بما يفهمه الغير مشافهين حتى يكون ظنّاً معلوم الحجية، فهذا هو القدر الذي يمكن أن يقال إنه الظن المعلوم الحجية ...) إلى أن قال : ( وثبوت اشتراكنا معهم في أصل التكليف بالإجماع لا يوجب اشتراكنا معهم في كيفية الفهم من هذه الأدلّة، وتوجّه الخطاب إلينا، ولا إجماع على مساواتنا في العمل بالظنّ الحاصل منها لنا)[1] (إنتهى) .
وقال في بحث الإجتهاد والتقليد : ( المسلّمُ منه حجيّةُ متفاهَمِ المشافَهين والمخاطَبين ومن يحذو حذوهم لأنّ مخاطبته كانت معهم، والظن الحاصل للمخاطَبين من جهة أصالة الحقيقة والقرائن المجازيّة حجّة إجماعاً، لأن الله تعالى أرسل رسوله وكتابَه بلسان قومه، والمراد بلسان القوم هو ما يفهمونه، وكما أنّ التّفهيم يختلف باختلاف اللَّسان كذلك يختلف باختلاف الزّمان، وإنْ توافَقَ اللَّسانان فحجيّةُ متفاهم المتأخّرين عن زمن الخطاب وظنونهم يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على حجيّة متفاهم المخاطبين المشافهين لمنع الإجماع عليه بالخصوص ولا يمكن إثبات ذلك إلا بأحد وجهين :
الأوّل : انحصار السّبيل إلى الحكم في العمل بتلك الظنون ودلالة استحالة التّكليف بما لا يطاق عليه وهو ما ذكرناه، لأنّ ذلك هو مقتضى الدّليل العقلي المقتضي لحجيّة ما يصحّ السّبيل إليه من الظَّنون من حيث هي ظنّ، لا من حيث هي أنّه ظنّ خاصّ، إذ الدّليل القطعي لا يدلّ على حجيّة ظنّ خاصّ، والمفروض أنّ الإجماع غير مسلَّم في الظَّن الحاصل لغير المشافهين .
والثّاني : أنّ الكتاب العزيز من قبيل تأليف المصنّفين الَّذين يقصدون بكتابهم بقاءه أبد الدّهر ليفهم منه المتأمّلون فيه بكرور الأيّام على مقدار فهمهم ويعملون عليه، وكذلك المكاتيب والمراسيل الواردة من البلاد البعيدة، سيّما مع مخالفة لسان المكتوب مع المكتوب إليه، فإنّه لا ريب في جواز العمل للمدرّسين في التّأليفات والمتعلَّمين والمتأمّلين فيها وحملها على مقتضى ما يفهمون بقدر طاقتهم، ولا كذلك المكتوب إليهم المكاتيب فإنّه ممنوع، سيّما فيما اشتمل على الأحكام الفرعيّة، إذ الظاهر منها إلقاء الأحكام بين الأمّة وإعلام المخاطبين بالشرائع وإعلاؤها بينهم، وذلك لا ينافي قصد عمل الآتين بعدهم ولو بعد ألف سنة بذلك، لأجل حصول الطَّريقة واستقرار الشّريعة بعمل الحاضرين ومزاولتهم ونقلهم إلى خلفهم يداً عن يد، ولا ينافي ذلك أيضاً تعلَّق الغرض ببقائه أبد الدّهر لحصول الإعجاز وسائر الفوائد، إذ ذلك يحصل بملاحظة البلاغة والأسلوب وسائر الحكم المستفاد منها مع قطع النّظر عن الأحكام الفرعيّة التي هي قطرة من بحار فوائده ..) إلى أن قال : ( والحاصل أنّ دعوى العلم بأنّ وضع الكتاب العزيز إنما هو على وضع المصنّفين سيّما في الأحكام الفرعيّة دعوى لا يفي بإثباتها بيّنة)[2] ( اِنتهى كلامه رفع مقامه) .
وعلى أساس أنّ قوله بعدم حجيّة استظهاراتنا نحن، إضطرّ إلى القول بانسداد باب العلم والعلمي في أغلب الأحكام الشرعية، وأن يذهب إلى القول بحجيّة الظنّ ـ وهو الظنّ الناشئ من استظهاراتنا نحن غير المشافَهين ـ خوفاً من أن يخرج من الدين بالكليّة !!
إذن الكتاب الكريم نزل ليَفهَمَه خصوصُ المعصومين (عليهم السلام) ولم يُقصد إفهامُه لغيرهم !! وأمّا الروايات الشريفة فهي مجرّد أجوبة على أسئلة معيّنة، ويحتمل أن يكون يوجد قرائن حالية أو مقالية لم تُنقَل في الروايات .
فأقول : لا شكّ أنّ الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) حينما يكلّمون إنساناً معيّناً في زمانهم فإنهم يريدون إيصال الجواب إلى كلّ زمان ومكان، لأنها وظيفتهم عقلاً وشرعاً، لأنهم خلفاء رسول الله (ص) في تبليغ رسالات الله سبحانه وتعالى، فإذن يجب أن يكون كلامهم حجّة بلحاظ غير المخاطَبين أيضاً، ويجب عقلاً أن يوضّحوا ذلك للغائبين أيضاً، وإلاّ لما كانوا خلفاء رسول الله (ص) ...
فلا صحّة لما قاله المحقّق القمّي صاحب القوانين من اختصاص حجّية الظهور بمَن قُصِد إفهامُه .
على أنه لا شكّ أنّ المعصومين (عليهم السلام) لم يكونوا يكلّمون الناس بالرموز لإخفاء الأحكام الشرعية عن غير المشافهين، فهذا مخالف لغرضهم الرسالي، ولا يصدر من أجهل عالم دين في الدنيا، كما لا شكّ في أنّ نقلة الأحاديث كانوا بمقتضى وثاقتهم ينقلون كلّ القرائن المقامية واللفظية المحيطة بالحديث، وإلاّ لكانوا غاشّين في دين الله، ولكان قولهم بمثابة "ويل للمصلّين" ! وهذا ينافي الوثاقة، ولذلك لا نشكّ بمقتضى فهمهم ووثاقتهم أنهم كانوا ينقلون الأحاديث بما يحتفّ بها من قرائن مؤثّرة على المعنى . ولك أن تتمسّك بأصالة عدم الغفلة وعدم الخطأ التي هي أصول عقلائية معروفة ومسلّمة .
على أنك تعلم أنّ المتشرّعة الذي كانوا في زمان الأئمّة المتأخّرين (عليهم السلام) كانوا يأخذون بظهورات الروايات التي صدرت في زمان المعصومين المتقدّمين (عليهم السلام) من عهد رسول الله (ص)، ويعملون على أساسها، ولا يشكّ واحِدٌ في العالَم بذلك، والأئمّةُ ساكتون عن هذا العمل والأخذ، فلماذا لم ينهوهم عن الأخذ برواياتهم القديمة بذريعة أنكم بعيدون عن اُولئك السائلين بمئات السنين، وأنتم غير مقصودين بالإفهام، ولعلّه كان يوجد قرائن مقامية أو حالية أو أو ... لم تصلكم، ولعلّه وقع خطأ أو سهو أو نسيان أو تقطيع للروايات غيّر بعضَ معانيها أو وقع غفلة عندهم وفي نقلهم ...
المهمّ هو أننا قد ذكرنا أنّ الأئمّة (عليهم السلام) لم يُلفِتوا أتباعَهم إلى هكذا احتمالات، لا في أيام الأئمّة المتأخّرين، ولا في عصر الغيبة الصغرى (260هـ ـ 329 هـ ق) وبنوا على الصحّة في كلّ ذلك، حتى صار ارتكاز رواة أحاديثنا أنّ السؤال والجواب هو لكلّ الناس في كلّ زمان ومكان . نعم نعود ونكرّر : يجب البحث والفحص في الروايات قبل الجزم بالحكم، لعلّه يوجد بعض القرائن تقيّد أو تخصّص أو توضّح المراد تماماً .

وكذلك الكلام في ظواهر كتاب الله الكريم، فإنها حجّة مطلقاً ـ أي للمخاطبين ولغير المخاطبين ـ لكن لخصوص الخبراء باللغة العربية وإلاّ ـ لو لم تكن ظهورات القرآن الكريم لنا حجّة ـ لبطلت الفائدة من قراءة القرآن الكريم لوحده ـ أي مجرّداً عن الروايات المفسّرة ـ وستبطل الفائدة من عرض الروايات المتعارضة عليه، أو عرض الحديث المخالف عليه، وح لن يكون نوراً وهدى وتبياناً لكلّ شيء . وأخشى ما نخشاه أن تشيع فكرة عدم إمكان فهم القرآن الكريم لوحده حتى من الخبراء باللغة العربية، فلا يعود الناس يقرؤون كتاب الله، لاعتباره من الطلاسم المرموزة التي لا يفهمها إلاّ المعصومونi، ولا يعود الناسُ يستشهدون به في كتاباتهم وخطاباتهم، وهذا أمر خطير للغاية، فإنه تكذيب لكون القرآن الكريم هدى للناس ونور وتبيان لكلّ شيء، وتدمير معنوي لنفس القرآن الكريم، خاصّةً لمن لم يَعْتَدْ أن يرجع إلى الروايات المفسّرة إمّا لعدم وجودها في بيوت المؤمنين ـ كما هو الحال غالباً ـ وإمّا لعدم معرفة الروايات الصحيحة ـ سنداً أو متناً أو دَلالةً ـ من الفاسدة . والقرآن الكريم وضع ليقرأه الناس وليستفيدوا من معانيه، ووضع ليكون هدى لهم وبيان وتبيان للحق .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo